يختلف تأثير الأم النرجسية على أبنائها، باختلاف حدة نرجسيتها. فقد تعاني المرأة من بعض الأعراض، بينما تعاني أخرى من جميعها. لكن في كلتا الحالتين يُمكن أن ينعكس ذلك على تربية الأولاد، ويسبّب لهم أذى كبيراً على المدى البعيد.
ينتمي اضطراب الشخصية النرجسية إلى الاضطرابات الشخصية من "المجموعة ب"؛ ولا يمكن التعرّف على صاحب الشخصية النرجسية باختبار دمٍ معيّن مثلاً، أو تصوير رنين مغناطيسي، إنما من خلال سلوكياته فقط.
وفي العادة لا يُدرك صاحب الشخصية النرجسية -أو ضحيته- طبيعة المشكلة، فتترتب على ذلك سلسلة لا نهائية من سوء المعاملة، والإساءة المقنّعة بالحب والعناية والحرص على المصلحة، قد تمتد إلى عمر الشباب وربما أكثر.
بمعنى آخر، لن تُدرك أنك ضحية أمٍ نرجسية إلا في وقتٍ متقدّم. والأم النرجسية لا ترى إلا نفسها غالباً، وتعتبر أبناءها جزءاً من صورتها أمام الناس، وقد تهمّش احتياجاتهم ورغباتهم مقابل الصورة التي ترضيها عن نفسها.
في هذه العلاقة الصعبة، عادةً ما يسعى الأبناء للحصول على رضا الآخرين، لأنهم اعتادوا السعي للحصول على رضا والدتهم، كجزءٍ من حياتهم اليومية.
ما هو اضطراب الشخصية النرجسية؟
اضطراب الشخصية النرجسية يُعتبر أحد الأنواع المتعددة لاضطرابات الشخصية، ويُشخّص المُصاب به على أنه "مريض".
وبحسب الموقع الطبي العالمي Mayo Clinic، فإن الاضطراب عبارة عن حالةٍ نفسية يتملك خلالها المريض شعورٌ مبالغ فيه بالأهمية، مع حاجةٍ عميقة إلى زيادة الاهتمام والإعجاب.
يؤدي اضطراب الشخصية النرجسية إلى انعدام تعاطف المريض مع الآخرين؛ وعادةً ما يكون النرجسيون عرضةً للإحباط حين لا يحصلون على قدر الإعجاب والاهتمام الذي يرون أنهم يستحقونه، ما يتسبَّب بسلسلة لا نهائية من المعاناة النفسية، لهم ولمحيطهم.
يتميز الشخص النرجسي بصفاتٍ مختلفة، لعلّ أبرزها أنه يعتقد أن الكون يدور من حوله، و"الأنا" في مقدّمة أولوياته دائماً، كما يشعر بأنه الأفضل والأحسن وخبير بكلّ الأمور ويسعى إلى السيطرة وفرض سيطرته على محيطه.
الأكثر قسوة بشأن الشخصية النرجسية قد يتمثل في أن تكون مضطراً إلى التعامل معها عن قرب، أن تكون "أمك" هي الشخص المُصاب بهذا الاضطراب. ستختبر الكثير من المعاناة المكتومة، لاسيما أن الشخصية النرجسية غالباً ما تبدو براقة ومثالية من بعيد، ولكن كيف تبدو حقاً الحياة في منزلٍ بداخله أم نرجسية؟
الحياة مع الأم النرجسية
"شعرتُ بأن حياتي عبارة عن قفصٍ يبدو بلا مخرج"؛ كان هذا العنوان الذي اختاره دونالد جي دوتون للبحث الذي أجراه ونشره على صفحات مجلة "حضانة الطفل" في نوفمبر/تشرين الثاني 2011.
ركز دوتون من خلاله على بيوت الأمهات النرجسيات، وكيف تبدو الحياة حقاً تحت سطوة الأم النرجسية التي تعاني من سلوكياتٍ إشكالية مثل: اللوم، والتلاعب، والاكتفاء الذاتي لإخفاء تدني احترام الذات.
البحث -الذي شمل 13 امرأة كتبن على نطاقٍ واسعٍ عن طفولتهن مع أمهاتهن النرجسيات- أشار إلى أن المشاركات جميعاً خضعن لعلاجٍ نفسي في مرحلة البلوغ. وقد خلص إلى أن المشاركات شعرن جميعاً، في مرحلة الطفولة، بأنهن محرومات من الدعم والرعاية الصحية أو التعليم أو حتى إمكانية الوصول إلى موظفي الخدمة الاجتماعية؛ في حين بدت الصورة العامة دائماً مثالية، بينهن وبين أمهاتهن.
لا تتعاطف الأم النرجسية أبداً مع أطفالها، حتى لو تعرض أحدهم لحزنٍ شديد أو موقفٍ عصيب. تكترث فقط لِما تشعر به وحدها، أما وظيفة أبنائها فهي تدليلها والانصياع التام لها، وأي مخالفة لذلك قد تكلف الطفل إساءات نفسية وبدنية يُمكنها أن تكون عنيفة.
تميّز الأم النرجسية بين أبنائها بشدة، وعادةً ما تميل إلى الذكور أكثر من الإناث، وفي العموم تعامل الابن الأكثر قدرةً على تدليلها -مادياً ومعنوياً- بطريقةٍ أفضل من الآخرين، ما يجعل الجميع في حالة سباقٍ متواصل لإرضائها.
ترى الأم النرجسية أيضاً أن أبناءها أشبه بـ"الروبوت"، الذي يجب أن توجّهه، لأنها دائماً ما تمتلك وجهة نظرٍ صحيحة. هكذا تتحكم في الاهتمامات ونوعية الدراسة وصولاً إلى الزواج، وإذا خالف أحدهم كلمتها تتحوّل حياته إلى جحيم.
في كتابها "هل سأكون جيدة كفاية؟"، تركز الدكتورة كاريل ماكبرايد على الجروح العاطفية للبنات اللواتي كان عليهن أن يلعبن دور الأم حتى لأنفسهن، مقابل عدم قيام أمهاتهن النرجسيات بأدوارهن!
لا تكترث الأم النرجسية لاحتياجات طفلها؛ هكذا ينشأ أطفالها من دون أن يعرفوا كيف يلبون احتياجاتهم عندما لا يستمع إليهم أحد، وتقول ماكبرايد في هذا الإطار: "حين يكون لديك احتياجات أو رغبات غير ملباة، فستكرر أنماطاً غير فعالة. على سبيل المثال يعتبر الإفراط في رد الفعل، التذمر، أو المعاملة الصامتة طرقاً سيئة للتعبير عما تحتاج أو تريد".
وتتابع قائلة: "نحن الكبار نعرف أنه عندما يتحدث الطفل الداخلي، فإن تلك الطرق لن تكون فعالة. هل ترى ذلك؟ لا أحد يستمع لنا، واحتياجاتنا -كبالغين- لا يتم تلبيتها، هل سأكون يوماً ما جيدة بما يكفي؟".
مجموعات سرية للتعافي
20% من أولياء أمور المراهقين في البحرين "نرجسيون"؛ وهذا الرقم على ضخامته، يكاد يكون الوحيد المُعلن في العالم، فيما يواصل ملايين الآباء والأمهات النرجسيين الإساءة إلى أبنائهم في الخفاء.
لأجل ذلك، أُنشئت مجموعات سرية يحكي فيها المتضررون -تحت أسماءٍ مستعارة أو بواسطة حسابات وهمية (على اعتبار أن الوضع "مهين")- عن معاناتهم.
إحدى هذه المجموعات السرية تحمل اسم "تعافي ضحايا إساءة الوالدين"، وتنشط على فيسبوك وتضمّ نحو 13 ألف عضوٍ من متضرري التربية غير السوية.
يتفق الضحايا على أنهم في الغالب أبناء لـ"أم نرجسية"؛ هكذا يختصر الأعضاء الذين ينشرون قصصهم بطريقة مُبهمة، ويستبدلون كلمة "ماما" بـ"النرجسية"، فتخرج القصص على طريقة: "النرجسية فعلت كذا اليوم"!
من بين المنشورات المُثبتة في مقدمة المجموعة أرقام هواتف طارئة للتبليغ عن العنف الأسري، تشمل جميع الدول العربية.
تقول إحدى عضوات المجموعة (20 عاماً)، وطلبت عدم ذكر اسمها: "ترفض أمي العلاج، لكني حين لجأتُ إلى الطبيب النفسي لتخطي إساءتها، شخّص حالتها بأنها مصابة باضطراب الشخصية النرجسية".
وتتابع: "أحياناً أتخيل النرجسي وضحيته كالعصفور والقط، كلاهما داخل غرفةٍ مغلقة: لا يمكن للعصفور أن يطير طوال الوقت، ولن يكف القط عن الانقضاض عليه. أنا كالعصفور مع أمي، ترغب في الانقضاض عليّ طوال الوقت، أما أنا فأطير وأقاوم أحياناً، وأحياناً أخرى أختبئ. لكني أحلم دائماً بأن يُفتح الباب وأتمكن من الهروب".
شابة أخرى (23 عاماً)، تحكي تجربتها لـ"عربي بوست"، فتقول: "اكتشفتُ أن أمي نرجسية بعدما قرأتُ عن أعراض الاضطراب. أسوأ ما في الأمر أن أمي تحرّض إخوتي علي، وتحرّضني عليهم".
وتضيف، متمنيةً عدم ذكر اسمها: "تزرع بداخلنا الحقد وتشوّه صورة الجميع أمام الجميع، حتى صار الحقد اللغة السائدة داخل المنزل. أعاملها بما يرضي الله، لكني لم أعد أحتمل، وحالياً بدأتُ أسلك طريق العلاج النفسي حتى أتخلص مما لحق بي من أذى نفسي".
علامات الأم النرجسية وطريقة التعامل
الدكتور إيهاب هندي، أخصائي الطب النفسي وعلاج الإدمان بالمعهد القومي للجهاز العصبي والحركي في مصر، يفرّق بين نوعين من الأمهات اللاتي يُقال عنهن "نرجسيات"؛ ويقول في حديثٍ إلى "عربي بوست":
- النوع الأول: هو وصف الأم النرجسية المنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تُطلق التصنيفات مجاناً، فتتحول أي أم -حدث وأن تخطت حدودها أو أساءت بأي شكلٍ إلى أبنائها- إلى أم نرجسية.
تبدأ الاستغاثات من صعوبة التعامل معها، رغم أن المسألة بالكامل يمكن أن تكون مرتبطة بعامل الوقت أو بمواقف معينة، تخطت خلالها الأم حصراً حدوداً ما. وعلى الرغم من وجود اضطرابٍ فعلي، ففي كثيرٍ من تلك الحالات لا تكون الأم مصابة باضطراب الأم النرجسية "طبياً".
- النوع الثاني: هن الأمهات المصابات فعلاً باضطراب الشخصية النرجسية. وحتى يتم إطلاق عبارة "اضطراب"، يجب أن تتوافر في هذه الشخصية 6 سمات أساسية من 10، لكن الأمر الأساسي هو أن يكون هناك نمط دائم من الإحساس الداخلي والسلوك الممتد طوال الوقت.
نتحدث هنا عن سمات ممتدة في مجموعة من العلاقات الشخصية والمواقف، بمعنى أن النرجسي يكون الشخص نفسه في المنزل والعمل والشارع.
أما عن السمات التي يمكن من خلالها تحديد ما إذا كانت الأم مصابة باضطراب الشخصية النرجسية أو لا، فهي:
- وجود نمط ثابت من الشعور بالعظمة، سواء في خيالها أو سلوكياتها: لدى الأم النرجسية احتياج دائم للحصول على الإعجاب، لكنها في الوقت نفسه لا تتعاطف مع الآخرين.
- المبالغة الكبيرة في الإنجازات مهما كانت بسيطة: تمنح الآخرين شعوراً بأنها تفعل المستحيل، وتذكّرهم باستمرار بأنها تقوم بأمورٍ لا يمكن لمن سواها أن يفعلها: "أنا أطبخ طعاماً لا يطبخه غيري، وأشتري ملابس بأقلّ الأسعار من أماكن لا يصل إليها أحد غيري، لا أحد نظيفاً مثلي، وطوال الوقت مطلوب من المحيطين الاعتراف بالإنجازات والتفرد".
- الاستغراق التام في النجاحات اللانهائية والقوة العظيمة: عادةً ما تكون لديها خيالات أنها أكثر سيدة دخلت في قصص حب مثالية، وعلاقات اجتماعية عظيمة، رغم أن هذا كله قد لا يكون حقيقياً، خاصة مع الضعف الشديد في العلاقات نتيجة طبيعة شخصيتها.
- تعتقد أنها أم متميزة وتحرص على ألا تتعرف إلا على الأفضل والأكثر تميزاً: فمثلاً إن كانت على "جروب الأمهات" الخاص بمدرسة أطفالها، فلن تتعرف إلا على أولياء الأمور الأغنى والأشطر والأفضل اجتماعياً ومادياً. ستجدها تعقد الصداقات مع مديرة المدرسة والمدرسين والوكلاء، وتنأى عن أولياء الأمور.
- ترغب في إعجاب مفرط طوال الوقت، وأن تسمع عبارات مثل: "أنت جميلة، أنت عظيمة، أنت أم سباقة".
- لديها شعور متواصل بأنها في الصدارة، وتوقعات غير منطقية بأن الجميع يجب أن يتعامل معها بشكلٍ مختلف، لأنها ليست عادية.
- استغلال العلاقات الشخصية، وتلك هي أسوأ نقطة: لن تتردد الأم النرجسية في استغلال الأبناء للضغط على والدهم مثلاً، أو استغلال زملائها في العمل، أو جيرانها. هي تسعى باستمرار لتحقيق أكبر استفادة.
- تفتقد للتعاطف وترفض الاعتراف بمشاكل أولادها، ولا تأخذ آراءهم أو مشاعرهم على محمل الجد. لا أحد يجب أن يشعر بأي شيء إلا تجاهها هي، حق الشعور حصري لها.
- حسودة وحقودة بشكلٍ مباشر: لا ترغب الأم النرجسية في أن ترى أحداً بحالٍ جيدة، وتعتقد في الوقت ذاته أن الناس يحسدونها ولا يضمرون لها الخير.
- متعجرفة ومتعالية بشكل غير مقبول.
توافر 6 سمات على الأقل من تلك العشر يعني أن أبناء تلك السيدة سوف يعانون كثيراً من أمورٍ مختلفة؛ أكثرها صعوبة افتقاد التعاطف، والتفاهم، وغياب الدعم، والكسر المتواصل للحدود، الأمر الذي قد يتسبب في اضطراباتٍ نفسية عدة.
كيف يمكن التعامل مع الأم النرجسية؟
إذا تم تشخيص الأم باضطراب الشخصية النرجسية، يجب أن توضع لها حدودٌ واضحة من دون أن يُسمح لها بتجاوزها. وهذه هي النقطة الأصعب، لاسيما أن الثقافة الدينية توصينا بطاعة الوالدين.
ووفقاً للدكتور إيهاب هندي، فإن كان سنّ الأولاد كبيرة بما يكفي، فدورهم يتلخص بمنحها شعور التعاطف. "عليهم أن يخبروها بأنهم يتفهمون ما تشعر به وترغب فيه، لكن في الوقت نفسه هناك حدود لا يمكن أن تتخطاها".
النصيحة الثانية هي أن يتم الحديث معها بهدوءٍ شديد وودّ عالٍ، من دون أي جدال. فالجدال مع الأم النرجسية غير مجدٍ، وسيزيد من عنادها ويفاقم المشكلة.
كذلك، حين تدخل الأم النرجسية في واحدة من نوبات الإحباط العديدة التي تنتابها -بسبب الفشل والتوقعات العالية التي تنهار أمامها- يمكن حينها أن يتم دفعها ناحية العلاج النفسي. لكن عليك أن تخبرها ذلك بطريقتها المفضلة، كأن تقول لها: "أعرف أفضل طبيب نفسي، استطعتُ الوصول إليه أخيراً والحصول على موعدٍ كي يساعدك على تخطي مشاعر الحزن. فأنتِ لا تستحقين ذلك".
أما النصيحة الأخيرة، "وتلك أنفذها بنفسي" يقول هندي، ويضيف: "حين أرى أماً نرجسية تؤذي أولادها، فمسؤوليتي كطبيبٍ نفسي أن أبلّغ عن الإساءة التي يتعرض لها الأطفال".