آباؤنا الذين لا نحبهم!

تم النشر: 2021/05/05 الساعة 12:50 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/05/05 الساعة 12:50 بتوقيت غرينتش
صورة تعبيرية للعنف ضد الأطفال/istock

بين الحين والآخر، وبينما أقلب في صندوق البريد، أجد الأسى على هيئة سؤالٍ من فتاةٍ في بدايات عشرينياتها، تقول: "أنا أكره أهلي كثيراً، يضربني أبي وتفزع نومي أمي، ويحرمانني من مصاريف الدراسة أحياناً رغم أن حالنا ميسور، وكأنهم يزرون وازرة طفولتي وشبابي وزر طفولتهم التي سلبها منهما جدي وجدتي".

وتقول أخرى: "لطالما تنتقصُ مني أمي وتعيِّرني بشكلي، أنا سوداء اللون قليلاً ونحيفة، أعرف أنني لست جميلة كابنة خالتي، لكنه البطن الذي أجنبني ولا أستطيع تغيير ملامحي. حتى في زيارتي للطبيب النفسي أصبح كالسارقة التي تخفي فضيحتها خوفاً من اكتشاف الأهل لها، لأنه في نظرهم "دلع بنات ماسخ" يجب أن تُؤدب عليه".

ويقول هذا الشاب: "يُفرّق أبي بيني وبين إخوتي في كل شيء، في المأكل والمشرب والملبس، كل هذا لأن درجاتي الدراسية لم تكن عالية بالشكل الذي يرضيه فلم أستطع دخول كلية الطب مثل إخوتي وأصدقائي، في الحقيقة لا أحب هذا المجال من الأساس، ولكني لا أستطيع الاعتراف بهذا".

وبعض الرسائل تنذر بالاكتئاب فور قراءتها، أتنهد وأقرأ: "هل سيقبل أحدهم أن يتزوجني وأنا على تلك الحال؛ طبيبة في ثوب مريض؟ عشت منبوذةً من الأهل ولا أعلم السبب، لم تحتضني أمي مرةً وكأنني شيطانةٌ مريدةٌ أو امرأةٌ تقوم بالفاحشة. أخبِرني هل من المفترض أن أخفي عن المتقدم تلك المصائب حتى لا يهرب؟ وإن أخفيت كيف سأعيش حياتي وقد بدأتها خائفةً وأنهيتها كاذبةً وأنام فيها بنصف عين؟! أنا ألعن نفسي".

وتقول أخرى وتقول أخرى ويقول آخر، ولا يفرغ صندوق البريد الإلكتروني أبداً، ولا أعرف بماذا أجيب هؤلاء!

في الحقيقة يحزنني ويفطر قلبي حال الفتيات اللَّاتي يشتكين من تعامل الأهل والإساءة التي تقع عليهنَّ منهم، لكني لستُ طبيباً نفسيّاً أحسن ضبط النفس والتعامل بمهنية مع تلك المشاكل، وغالباً تسيرني عاطفتي تجاه هؤلاء الفتيات والشباب لأننا نتشارك نفس الجيل، ولا أشعر حينها إلا بالغضب والأسى. أود أن يكون لي جناحا طائر فأطير إلى بيوت هؤلاء لأقتلع أفئدة آبائهم من صدورهم، أو لأخفف عنهم بعض ما يلاقونه من خوفٍ في المكان الذي يجب أن يأمنوا فيه بأس الدنيا وشرِّها.

بؤساً وأسفاً على كل أب وأم لما يراعيا حقَّ بناتهما، لم يراعيا فيهنَّ ديناً أو رحمةً أو إنسانيةً، ولم يأخذا بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن عقبة بن عامر: "لا تَكْرَهوا البنات، فإنهنَّ المُؤنِساتُ الغالياتُ". فكيف تؤذون بنتاكنَّ لعرضٍ من الدنيا، أو لمرض خبيثٍ في أنفسكم نشأتم عليه وكبرتم عليه؟!

ثم أنني أقف كالحجر لا أجد ردّاً مناسباً لمثل هذا، هل أخبر الفتاة أن تهجر بيتها وأهلها؟ أين ستذهب في مجتمعٍ وضيعٍ كهذا إذا فرَّط فيها أقرب الناس إليها؟ كيف ستعيش وحيدةً أثناء الدراسة لا مال تصرف منه، ولا بيت ترجع إليه لتأمن فيه مكر الناس وخديعتهم؟ وجل ما أجيب هؤلاء به أن يتصبروا على طبيعة الحياة ويركنوا إلى التواصل الرحيم حتى يستقلوا بأنفسهم أو بالزواج أو غير ذلك.

● فجوة جيل أم موروث نفسي؟

في حقيقة الأمر أن كلا السببين يعد إحدى المشاكل الرئيسية في تعامل الآباء والأمهات بشكل عام مع أبنائهم.

فالموروثات النفسية والسلوكية المتعلقة بالطفولة السيئة والنشأة غير السوية التي عاشها الأهل من قبل في بيوت عائلاتهم، لها تأثير مباشر على سلوكياتهم المتطرفة وشخصياتهم القاسية المضطربة تجاه أولادهم فيما بعد. لكن هل سيظل هذا الحبل القاسي مربوطاً بين الأجيال؟ قطعاً لا، فنسبة الوعي والتأقلم تحد من تناقل الإساءات بين الأجيال عبر إدارة مشاعرهم وفقه تعاملهم، فيسمى الناجي المعافى من بيئة قاسية في علم النفس "السويّ المدهش"، لكن هذا لا يمنع أننا نُورَّث بعض الطباع من الأهل رغماً عنا.

نعطي مثالاً: البنت التي تربت مع أب منضبط لكنه صارم في تعامله، ستميل رغماً عنها لزوج لديه نفس الحزم والانضباط، حتى لو كرهت ذلك منه، لأن معاكسة الطباع والمبادئ هي مجرد رد فعل نمطي تجاه ما نكره، فإذا اختارت زوجاً كسولاً قليل السيطرة لتتحرر من قيود الماضي، ستمله مع الوقت وتشعر بأنها الشخص الآمر الناهي وتفتقد سيطرة الرجل المتمثل قديماً في دور الأب.

أحد الموروثات السلبية[1] كذلك هي النشأة الاعتمادية المتفشية والالتصاق الكبير بالأهل للأسف في قوالب المجتمع العربي والمصري خصوصاً، حيث يؤديان إلى هروب من المسؤولية الاجتماعية والأسرية عند النضج المباشر والصدام مع واقع الحياة، ويخفيان شعوراً داخليّاً من عدم الكفاءة الوظيفية تجاه الآخرين الذين يتحتم علينا رعايتهم وحمايتهم. وهذا تحديداً أحد أسباب العزوف عن الزواج في أوساط الشباب ليحمي نفسه مؤقتاً من حمل ضغوطات فوق ما يحمل، وسبب مباشر في سوء التربية والقوامة والتنشئة الأسرية بعد الزواج.

أما السبب الآخر في تعامل الأهل، فهو الفجوة الثقافية والاجتماعية بين الأجيال الجديدة والقديمة، لذلك ففكرة توصيل أفكارنا واهتماماتنا ومشكلاتنا -التي قد تبدو تافهة- تكون شاقة على البعض، ويلزم معها استخدام وسائل معينة لتفادي الصدام المستمر مع أشخاص تربينا بينهم ونتعامل معهم وملزمين شرعاً وعرفاً وفطرةً بالبر والمودة والرحمة تجاههم مهما وجدنا النقيض.

ويزيد أو ينقص من حجم المشكلة أمران مهمان: نسبة الثقافة والوعي العام عند الوالدين أحدهما أو كلامهما، وكذا نسبة مشاركة ذات القيم والعقائد والأفكار مع الأبناء.

لذا كلما كبرت الفجوة بين الجيلين، وتباعدت التقاطعات الفكرية والقيمية، يزداد معها حجم وعدد المشاكل، ويصعب حينها التعامل وإيجاد حل مع الأهل، والعكس صحيح بكل تأكيد. وهذا الأمر يشمل كل مناحي الحياة تقريباً: منذ بداية التنشئة الدينية والاجتماعية، مروراً باختيار المجال الدراسي، نهاية بالعمل والزواج وتداخلات الأهل المتباينة في كل هذه المحطات الحياتية.

لذا فالطريقة الصحيحة -حسب رأيي- للتعامل مع أهلنا الذين يختلفون معنا فكريّاً وعقائديّاً وسلوكيّاً، خلال تلك المحطات، هي "التَّطنيش" وتكبير العقل وتصفية الصدر وتجنب الصدام المباشر وقول: "حاضر ونعم"، حتى تهدأ الأوضاع وتستقر. وبعد هدوء العاصفة، نغلق حجرتنا ونمارس هواياتنا واهتماماتنا في صمت، لأن معركة العناد مع الأهل هي معركة خاسرة لطرفٍ واحدٍ على الدوام: نحن الأبناء.

● كيف أتعامل مع ذكريات الماضي التعيسة؟

ذكرياتنا لا تُنسى، ولا أحد يهرب من ماضيه، لأن الهروب بداية المعاناة الحقيقية، إنما علينا إدارتها وفهمها كما يلي[2]:

1- قبول الذكريات، بحلوها ومرها، وعدم مقاومة وجودها أو دفعها بعيداً عنا، هي جزءٌ أصيلٌ منا الآن، شكلت هويتنا وشخوصنا، وأصقلت نفوسنا بالتجارب، إن قاومناها اشتدت، وإن دفعناها قلبت عينها واحتدت، وصارت أكثر إلحاحاً في التمسك بنا.

2- الحزن والحداد والعزاء الكافي على ذكرياتنا السيئة، ومشاركة الأحاديث عنها مع أشخاصٍ قريبين منا، وتفريغها محتوياتها على الورق للتخفيف من نار اشتعالها فتكون برداً وسلاماً على أفئدتنا.

3- مزاحمة الأيام والليالي بذكريات جديدة عبر الانتقال من الذكرى السيئة إلى ذكرى أخرى حسنة، ومن نشاطٍ قديمٍ إلى آخر جديدٍ، لكي تتجدد دماء الحياة داخلنا ونستعيد التوازن النفسي المطلوب.

4- صدق اللجوء إلى الله بالدعاء والتصبر واليقين أن الدنيا دار بلاء وشقاء، وأن ما نمرُّ به من جملة الابتلاءات يمر غيرنا بمثلها أو شبيهٍ لها. والوعي بما أحدثته هذه الابتلاءات من ندوب والتعافي منها لكيلا تكون لها اليد العليا لسير حياتنا القادمة.

والله أعلم وأرحم وأحكم.

●         المراجع

[1] تأثرت واستعنت ببعض إجابات ومنتوج د/ تغريد سعد الله (طبيبة نفسية)، عبر صفحتها الشخصية على موقع الأسك.

[2] نفس المصدر.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عبدالرحمن القلاوي
كاتب ومدون
كاتب ومدون في عدة مواقع ومنصات إلكترونية. مواليد محافظة البحيرة - مصر فبراير/شباط ١٩٩١م، وحاصل على بكالوريوس الإعلام من جامعة القاهرة ٢٠١٩م.
تحميل المزيد