يكاد لا يوجد شيء يمكن أن تفعله المرأة العربية من أي جنسية، دون أن يراه كثيرون "مسيئاً" لها. جرّب أن تكتب على سبيل المثال كلمة "فتاة مصرية" أو "فتاة مغربية" على محرك البحث، وستجد قائمة طويلة من "الرزايا" التي اقترفتها فتيات، أثرن الجدل، وتجرّأن في وقت ما على إقلاق راحة المجتمع:
فتاة تدعو للفجور، فتاة ترقص على سقف سيارتها، فتاة تجمد بويضاتها، وأخيراً "فتاة مصرية تعرض نفسها للزواج على فيسبوك!".
هناك عبارة مكتوبة بخط صغير أسفل قائمة اقتراحات جوجل، وهي: "الإبلاغ عن توقعات غير ملائمة"، نعم سيد جوجل، إنها توقعات غير ملائمة للغاية! ليس من المعقول أن تكون أكثر المواضيع المتعلقة بالفتيات العربيات بحثاً هي مواضيع "مسيئة، وحاضّة على الكراهية، وحساسة، وضارة، وغير ذات صلة"، على حد تعبيرك أنت! لكن هل يمكن للفتاة العربية فعلاً أن تهرب من هذا الفخ مفتوح الفكين على آخرهما؟ هل يمكنها أن تتجرأ على الخروج عن المألوف، دون أن تُعتبر مسيئةً لصورة المرأة العربية، أو قليلة الحياء، أو مهدّدة لعادات المجتمع وتقاليده؟
إمّا فجل أو ذهب.. أنت تختارين!
هناك رغبة مجتمعية قاهرة بأن تبقى الكثير من الأمور المتعلقة بالمرأة على ما هي عليه. من غير المقبول مثلاً أن تعرض فتاةٌ نفسها للزواج، لا يهم إن كانت الحالة المعيشية قد انحدرت، وقيم المجتمع قد تشوّهت، وحياة الفرد قد تعقدت، وأبواب "الخطايا" السريّة قد فُتحت على آخرها. هذه الأشياء يمكنها أن تتقلب وتتغير كما يحلو لها، لكن "العادات والتقاليد" يجب أن تظلّ كما هي، على الأقل ظاهريّاً، لأنها الذكرى الوحيدة الباقية من عالم "مثالي" كان موجوداً يوماً ما، عالم لم تكن المرأة فيه تتكلم، ولا تقرر، ولا تفكر، ولا تحمل همّ نفسها، ولا تبادر، ولا تخطّط للزواج، عالم كانت فيه المرأة يُتكلم عنها، يُقرر عنها، يُفكّر عنها، يُحمل همّها، وتُزوّج بمباركة الجميع، ووفق قواعدهم.
لكن ما السبب؟ لماذا هو عيب يُشهق له، وتُدارى عند سماعه الأفواه المفتوحة براحات الكفوف؟
لدى جدتي تفسير مقنع لهذا الأمر: هل سمعت في حياتك يوماً يا ابنتي بائع الذهب ينادي عليه في الأسواق؟ محلات الذهب تُقصد، ويُبحث عنها، أمّا ما يُنادى عليه عالياً، فهو الفجل والبصل والبطاطس الملوثة بالتراب.
منطق جدتي المتماسك
يحمل تفسير جدتي منطقاً داخلياً متماسكاً، وبالقياس إلى هذا المنطق، يمكننا أن نجد الكثير من الطروحات المتعلقة بالمرأة "سليمة"، من قصة الحلوى المكشوفة، إلى الانتقاص من شأن الأرملة والمطلقة، وانتهاءً بمعايير الجمال، التي تقاس إليها مهور النساء!
لكن الناظر من خارج هذا المنطق، يدرك أنه بُني كله على افتراضات خاطئة. إنه منطق "بيع وشراء" أكثر من كون منطقاً إنسانياً، وهو يصلح للسوق أكثر من كونه صالحاً للعلاقات بين البشر. إن المرأة فيه في أحسن أحوالها، بضاعة لا تزال في غلافها، منتج غير مستعمل "لا تمسّه الأيدي"، سلعة تتمتع بمواصفات السوق المطلوبة. أفليست المرأة التي "تسوّق" لنفسها" وفق هذا المنطق إذن، إلا بضاعة معيبة كاسدة، تحاول أن تورط الرجل في صفقة خاسرة؟
وخلف هذا المنطق المادي ليس العادات والتقاليد، ولا الحياء الذي يجب حماية حماه، ولا الأخلاق التي تهددها امرأةٌ أفصحت عن حاجتها للزواج، بل هي رغبة غير معلنة باستبعاد النساء من دائرة السلطة، حتى في أخص أمور حياتهن، لأن أي حق يُمنح لهن في التصرف بأنفسهن بعيداً عن أي وصاية، قد يعيد تشكيل المفاهيم الأسرية، لتراعي احتياجات المرأة المسكوت عنها، وقد يهدد بتغيير نسب "الأرباح" المتعارف عليها في صفقة الزواج. مجدّداً هو السعي لإبقاء كل شيء على ما هو عليه.
ولكن هل هذا ما كان كل شيءٍ عليه بالفعل؟ ومنذ متى؟
يحتاج الأمر بحثاً تاريخياً لاستشعار اللحظة التي بدأت فيها المفاهيم المتعلقة بالمرأة تنقلب نحو التشيؤ ومنطق السوق، لكن الأمر المؤكد هو أن تحوّلاً كهذا قد حصل بالفعل، طالما أن مجتمع صدر الإسلام كان قد رسّخ لحقّ المرأة في السعي للزواج، مثلها مثل الرجل على حدٍّ سواء، فمِن قصة السيدة خديجة مع رسول الله، إلى دفاعه صلى الله عليه وسلّم عن المرأة التي عرضت نفسها للزواج بقوله: "هي خيرٌ منك"، إلى الآية القرآنية "وَإِنِ امَرَأَةٌ مُؤْمِنَةٌ وَهَبَتْ نَفْسَهَا للَّنَبِيِّ". أمّا استنكار سعي المرأة للزواج في مجتمعاتنا، فهو سلبٌ لهذا الحقّ من المرأة، ومنحه بالكامل للرجل، ليطلبه متى شاء، أمّا هي فعليها أن تنتظر في صمت حتى "تُمنح" هذا الحقّ، يوماً ما.. ربّما.
إن الحديث عن رغبة المرأة بالزواج هو نوع من توضيح الواضح، وتأكيد المؤكّد، ولذا يبدو المشهد هزليّاً عندما يدّعي المجتمع تفاجؤه، في كل مرّة تتجرأ فيها امرأة بالحديث عن هذا الأمر، تضج عندها وسائل التواصل الاجتماعي بقصة هذه المرأة "الاستثنائية"، وتستضيفها القنوات الإعلامية، ويحاورها مذيع رجل بحواجب مرفوعة، وابتسامة فيها من السخرية أكثر ما فيها من الود، يستبيح حياتها الخاصة، ويحاصرها بالأسئلة، من أجل أن يقدّم للمجتمع صورة أوضح عن هذا الكائن الغريب: "امرأة تريد أن تتزوج"، والحجة المشروخة لهذا التفاجؤ: "مش متعوّدين على كده"!
ربّما تحلم نساء عالمنا العربي باليوم الذي سيتوقف المجتمع فيه عن "تمثيل الاندهاش" في كل مرّة تتصرف فيها امرأةٌ على سجيّتها، وتعبّر بوضوح عمّا تريده وعمّا لا تريده. عندها فقط ستستطيع المرأة أخيراً أن تعيش حياة طبيعية، يكون لديها فيها فرصة المبادرة، دون أن ينتهي بها الانتظار المغلف بالكبرياء، إلى أن يمنحها المجتمع نفسه لقب "عانس"!
صرخة في وضح النهار، وتغيير قادم لا محالة
إن عرض المرأة نفسها للزواج بات ثقافة مألوفة في الكثير من المجتمعات، والتي تؤخذ تطبيقات المواعدة مثلاً في كثير منها على محمل الجد، لكن نقلَ هذه الثقافة للواقع الافتراضي، سبقه أوّلاً تعزيز هذا الحق للمرأة على أرض الواقع. لذا لا بد من الاعتراف أن الشابة "مها أسامة" قفزت قفزة طويلة في هذا الدرب، وصعّبت مهمة الدفاع عن حق المرأة في المبادرة للزواج، خاصة أن ما قامت به لا يمكن تفكيكه عن عددٍ من الإشكاليات المتعلقة بالسوشال ميديا مثل تعمد إثارة الجدل، أو السعي للشهرة، أو قول المقال في غير مقامه. وقد نظل نتجادل حتى الصباح فيما إذا كان ما فعلته مها شجاعةً نادرة، أو تهوّراً في غير مكانه، لكن ما سيتفق عليه الجميع، هو أن فيديو مها أسامة، كان المناسبة لفتح نقاش في المجتمع، كان لا بدّ من بد من فتحه. فمها في النهاية أطلقت صرخة عالية في وضح النهار، في مجتمع تكتم فيه النساء صرخاتهن قبل النوم بالعضّ على مخدّاتهن.
ولصرخة مها يجب أن نصغي جيداً، لأنّها وإن كانت قيلت بطريقة غير مألوفة، وفي وجه جمهور يستأسد على أي صوت مختلف، إلا أنها صرخة محقّة وعاقلة وبشريّة للغاية. قد لا تبدو فكرة تشجيع النساء على عرض أنفسهن للزواج على فيس بوك فكرة صائبة، لكن لا يوجد شيء أكثر حكمة، من تشجيعهنّ على أن يكنّ على سجيّتهن في الحياة الواقعية، متسقات مع أنفسهن، مبادرات شجاعات وصاحبات قرار. إنه تغيير قادم لا محالة، بوسعنا أن نقاومه كما نشاء، لينفجر في وجوهنا في النهاية، وبوسعنا أن نباركه ونبدأ بإيجاد قنوات مشروعة له.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.