قبل أي شيء أود الاعتذار منك على هذه الكلمات التي قد تغضبك.. والتي أجد لدي دافعاً قوياً لكتابتها لا أستطيع مقاومته، وأعلم تماماً أن رأيك سيكون مغايراً.. فاعذرني على ما سأقول.
تدور في ذهني أسئلة شتى، تعصف بكياني أحياناً كثيرة.. أداري دموعي، أخبئها خلف جفوني جيداً حتى لا تلمح طيفها.. ولو أنني وجهتها لك لسخرت مني.. ولحاصرتني بقولك: ناقصات عقل.. ولكنت أمطرتني بأسئلة أكثر منها: الآن عرفتِني؟ ألم نمضِ معاً ما يربو عن خمسة وعشرين عاماً وأظن أنكِ قد خبرتني جيداً خلالها.. فما الداعي لمثل هذه الأسئلة الآن؟ أتشكين بحبي لك؟ هل أفعل ما يغضبك؟ هل أخفي عنك شيئاً؟ هل كذبت عليك أو خدعتك منذ عرفتني؟ أليست حياتي كلها وما تنتجه ساعداي لك ولأبنائك؟ فما الذي يدور في خلدك الآن ويعبث بعقلك؟ بربك أخبريني!.
قد تكون المشكلة لدي أنا وليس أنت.. فأنا وكأي امرأة تعبر الخمسينات من عمرها تقض مضجعها أشياء كثيرة قد تعتبرونها أنتم الرجال ليست من الأهمية بمكان، ولكني أجد في داخلي رغبة ماسة تطفو وتدفعني لأن أطمئن إلى رأيك ومدى تقبلك لهذا التغيير الذي أعبره في هذه المرحلة من عمري.. لم أعد تلك الفتاة اليافعة الصغيرة التي تقيض شباباً وحيوية، تتحرك بنشاط، وتتكلم باندفاع، وتعبُّ الحياة عبَّاً، لديها محيط من الأحلام والطموحات، لا تهدأ ولا تعطيك فرصة للهدوء.. عبرت عقدي الخامس فإذا بي أجد امرأة أخرى لا عهد لي بها.. احتلت جسدي آلام العظام والمفاصل والعضلات، وانضممت إلى جيوش المصابين بالسكري وارتفاع ضغط الدم، وغدوت بطيئة الحركة، صعبة المزاج، مكتئبة في أغلب أوقاتي.. في أعز لحظات الفرح أبكي، وفي الأوقات التي يضحك فيها الناس ويلهون تراني أملُّ وأضجر.. أنظر في المرآة: شعر أبيض يميل للخشونة، وتجاعيد وانتفاخ تحت العينين وترهل عضلات وضعف جسد.. رحل عهد الشباب على حين غرة حاملاً معه الحيوية والنشاط.
لا أستطيع أن أدَّعي بأن الحياة معك سيئة.. أبداً ليس الأمر كذلك! ما يشغل بالي حقاً غير الهموم الخارجية هو فكرة: هل ما زلت تحبني بالشغف ذاته الذي عرفته جيداً في السنوات الخالية؟ أم أن طول الفترة الزمنية أورثتك الاعتياد وقضمت عواطفك الجياشة تجاهي فلم يتبقِ منها إلا فتات لا يسمن ولا يغني من جوع؟.
أتقول كلماتك اللطيفة الآن من باب المجاملة الرقيقة أم أنها مشاعرك الصادقة ذاتها التي كانت وما زالت تضطرم في أعماق قلبك؟ أتمنى أن لا تلُومني على أسئلتي.. فنحن معشر النساء حساسات وعاطفيات، يمضغ القلق سكينة أرواحنا ببطء وهدوء عندما يتعلق الأمر بأنوثتنا وحب أزواجنا لنا.
أتعلم؟ بعد أن غدوت امرأة خمسينية، أشعر بي أحتاج للحب، والكلمات الدافئة أكثر مما كنت عليه في سنواتي الغابرة.. برغم أني أدرك الآن حجم المسؤوليات الضخمة الملقاة على عاتقك، من أبناء بحاجة للكثير من الدعم المادي والمعنوي لينطلقوا في حياتهم الخاصة بقوة وثقة، وعائلة كبيرة تحتاج للكثير وأقارب يتوقعون منك ما يتوقعون وقضايا مجتمع تملأ دورك فيها بفاعلية.. أدوار تثقل كاهل عشرة رجال، فكيف برجل واحد مثلك؟.
عن نفسي أقول: لا أعتقد بأن الشكل الخارجي للواحد منَّا يحتل أهمية وأولوية متقدمة في علاقتنا، فالجسد إن كان غضاً يافعاً أم مترهلاً مسناً.. ليس هو مقياس الحب والتفاهم والارتباط الذي يجمع بيننا.. فما يربطنا معاً من ألفة وود وتاريخ ماضي مشترك من الأيام الجميلة والحزينة والكبوات والعقبات والنجاحات والمغامرات وحتى الخلافات، لا يمكننا تقييمه بمقاييس مادية تافهة واختزاله في شكل الجسد وشبابه..
في طفولتي كنت أستغرب وأنا أشاهد خلسة جارنا أبو محمد وهو يتودد لأم محمد بشكل لم يكن يخفى حتى على صغيرة مثلي، بينما أم محمد تنشغل عنه بانتزاع أوراق الملوخية عن أغصانها صيفاً أو الزعتر ربيعاً في الحوش، كنت أقول في نفسي حينها: كيف يحبها وهي ليست بذات جمال؟ فوجهها أجعد منمش، وشعرها أشيب خفيف، وظهرها منحن معوج.. الغريب أن أبا محمد لم يكن يستطيع البقاء في البيت بدونها، فعندما أراه جالساً في الحوش مترقباً كطفل صغير ينتظر والدته التي طالت غيبتها، كنت أعلم أن أم محمد ليست في البيت.
يعود بي شريط الذكريات للوراء وكأنه يُعرَض أمامي من جديد، فأفهم الآن ما كنت أستغربه في صغري! فكلما طال أمد العلاقة غدت أمتن وأشدَّ عوداً.. ولكني أهمس في أذنك يا زوجي الحبيب بشيء:
نحن معشر النساء يطرب آذاننا الكلامُ العذب الرقيق الذي يؤكد لنا حياة المشاعر الدافئة وعدم انطفاء جذوتها.. وفي اللحظة التي يتوقف الزوج ورفيق الدرب فيها عن قول هذا الكلام تشعر الواحدة منا بالخوف والخطر وفقدان الأمان.. هذا كل ما الأمر.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.