من حينٍ إلى آخر، تظهر صورةٌ تجسِّد قصةً إنسانية بعمقٍ شديد في وقتٍ يشهد ذروة أحداثٍ اجتماعية أو سياسية، لدرجة أنَّها تصبح رمزاً.
وهذا ينطبق على صورةٍ التُقِطَت بأحد الهواتف الذكية أثناء مظاهرةٍ في السودان ضد الرئيس السوداني عمر البشير، مع وصول المظاهرات، التي كانت متقطعة منذ شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، إلى مستوًى جديد من الحدة.
قصة الصورة الأيقونة في السودان
تُظهِر تلك الصورة امرأة ترتدي ثوباً أبيض وقرطين ذهبيين تقف على سطح إحدى السيارات.
وتظهر المرأة في الصورة من زاويةٍ جانبية أثناء حديثها وهي رافعةٌ إحدى ذراعيها إلى السماء وتُشير بأحد أصابعها إلى الأعلى بينما تمسك خصرها بالذراع الأخرى، وسط كمٍّ هائل من الرؤوس والأذرع التي كانت ممسكة بالهواتف لتسجيل تلك اللحظة.
ومع أنَّ هوية صاحبة الصورة عُرِفَت واتضح أنَّ اسمها آلاء صالح، وهي طالبة عمرها 22 عاماً، فإنَّ بعض الأشخاص يُطلقون عليها تمثال الحرية السوداني، بينما يصفها آخرون بـ"المرأة ذات الثوب الأبيض". وبغض النظر عن الوصف، فقد أحدثت الصورة أصداء كبيرة تجاوزت السودان.
وقالت هند مكي، المربية السودانية الأمريكية المتخصصة في تعليم مناهضة العنصرية التي تقيم في شيكاغو والتي أعادت نشر الصورة عبر حساباتها على جميع مواقع التواصل الاجتماعي: "أنا واثقةٌ من أنَّها ستكون رمز الثورة".
وليست هي الوحيدة التي تظن ذلك.
إذ عجَّت مواقع التواصل الاجتماعي بتعليقاتٍ تُبدي إعجابها بالصورة، فالمستخدم محمد حسن نشر الصورة عبر حسابها على تويتر، قائلاً: "هذه الصورة الملتقطة في السودان ستُحفظ في كتب التاريخ".
بينما كتب مستخدمٌ آخر يُدعى Oui: "هذا المشهد سيُصنَع له تمثالٌ يوماً ما. إنه جميل".
وقالت هند إنَّ جزءاً من قوة الصورة مستمدٌ من الرمزية المتأصلة في اللقطة، في حين أنَّ معظم قوتها كامنٌ في ما ترمز إليه الأشياء التي ترتديها آلاء.
قوة الصورة كامن فيما ارتدته من ملابس
إذ ذكرت هند أنَّ قرطيها، اللذين يعكسان الضوء، من حُلِي الزفاف التقليدية التي تهدف إلى إظهار الأنوثة. وأضافت أنَّ اختيارها ثوباً أبيض، وهو زيٌّ لم يعد شائعاً بين الشابات السودانيات (اللاتي يربطنه بجيلٍ قديم)، يعكس علاقةً بالأمهات والجدات "اللواتي ارتدين أثواباً مشابهة في أثناء تظاهرهن في الشوارع احتجاجاً على دكتاتورياتٍ عسكرية سابقة".
وقالت هند إنَّ الثوب الأبيض كان كذلك ثوباً ديمقراطياً ترتديه الوزيرات والمحاميات. ويذكر أنَّ اللون الأبيض هو اللون الذي تبنَّته الطالبات المتظاهرات، ابتداءً من الشهر الماضي مارس/آذار، حين ارتدت الكثير من المشاركات في اعتصامٍ في جامعة الأحفاد للبنات أثواباً بيضاء، مما ألهم الآخرين لإظهار دعمهم من خلال ارتداء ملابس مماثلة (وإطلاق هاتشاغ عبر شبكات التواصل الاجتماعي).
ومنذ ذلك الحين، غالباً ما يُطلق على هؤلاء النساء اللواتي يرتدين ملابس بيضاء اسم الكنداكات، في إشارةٍ إلى ملكات النوبة قديماً، إذ تُشبَّه قوة هؤلاء الملكات بقوة النساء اللائي يساعدن الآن في قيادة الاحتجاجات.
والدتها مصممة أزياء
ولا يمكن أن يكون أيٌّ من ذلك قد غاب عن ذهن آلاء، التي تعد والدتها مصممة أزياء متخصصة في الأثواب.
وقالت هند إنَّ ذلك يُعطي اللون الأبيض أهميةً تاريخية خاصة في السودان، لكنَّها أضافت أنَّه يُعتبر عموماً لون البدايات الجديدة، ولون المُطالبين بمنح المرأة حق التصويت في أمريكا وبريطانيا، واللون الذي ارتدته نائبات الكونغرس مؤخراً في أثناء خطاب حالة الاتحاد في وقتٍ سابق من العام الجاري لإظهار تضامنهن ولحظة التغيير الخاصة بهن.
وذكرت هند متحدثةً عن رد الفعل على الصور التي نشرتها: "لقد كان استثنائياً، وغامراً".
تلقت تهديدات بالقتل
لكنَّه تضمَّن خطورة كذلك، إذ ذكرت آلاء يوم أمس على تويتر أنَّها تلقَّت تهديداتٍ بالقتل. وكتبت تغريدةً قالت فيها: "لن أنحني. صوتي لا يمكن قمعه. سيُعتبر البشير مسؤولاً إذا حدث لي أي شيء".
وكذلك نشرت لانا هارون مقطع فيديو أشارت فيه إلى رغبتها في الرد على جميع الأشخاص الذين سألوها عن شعورها حيال الصورة التي التقطتها. وقالت: "صلوا من أجل السودان".
جديرٌ بالذكر أنَّ ردود الفعل على تلك الصورة يضعها ضمن مجموعةٍ من الصور أصبحت رمزاً للحظات التاريخية التي تُمثِّلها، من بينها صورة "المرأة ذات الفستان الصيفي" التي واجهت شرطة مكافحة الشغب في مدينة باتون روج بولاية لويزيانا الأمريكية أثناء احتجاجاتٍ في عام 2016 ضد إطلاق النار على المواطن الأسود ألتون ستيرلينغ، وصورة "المرأة ذات الفستان الأحمر" التي كانت تدير وجهها بعيداً أثناء إطلاق شرطة إسطنبول الغاز المسيل للدموع على مظاهرةٍ مناهضة لإحدى خطط التطوير في عام 2013، وصورة الشاب ذي القميص الذي كان يواجه الدبابات في أثناء دخولها ساحة تيانانمن في العاصمة الصينية بكين عام 1989.
لكنها تدرعت بملابسها اليومية لا العسكرية
وفي كل حالةٍ من تلك الحالات، تستمد الصور قوتها جزئياً من الطبيعة اليومية المجرَّدة للشخص الظاهر فيها، الذي يبدو مُدرَّعاً بملابسه اليومية، وليس ملابس دفاعية أو عسكرية تُجرِّده من ميزته الفردية.
وهذه إحدى الطرق التي تُنشئ صلةً بين مشاهدي الصورة وذلك الشخص، الذي يبدو عفوياً مألوفاً، لأنَّه يرتدي ألواناً وأزياء معروفة.
وليس من قبيل المصادفة أن يُشار إلى هذه الصور بملابس الشخص الظاهر فيها. فهذه ليست فقط الطريقة التي نُعرِّف بها تلك الصور، بل كذلك الطريقة التي بها نستوعب هذه الصور ونشعر بها تماماً.
بيد أنَّ بعض التعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي قد أعربت عن غضبها من حقيقة أنَّ الصورة التقطت لجذب انتباه العالم إلى السودان، لكنَّ آرثر أسيراف، المؤرِّخ في جامعة كامبريدج في بريطانيا، كتب متحدثاً عن ردود الفعل على صورة المرأة السودانية: "هذا أمرٌ مُحبط للغاية. لكنَّه مفيدٌ جداً كذلك. فصور هؤلاء النساء تعد بمثابة موردٍ استراتيجي كبير يساعد هذه الحركات في جذب الانتباه. لذا اخرجوا إلى الشوارع وارتدوا ملابس لافتة! استخدموا هواتفكم واغتنموا وسائل التمثيل!".
وهذا سيُسفر عن "إضفاء الطابع الديمقراطي على جميع التجارب بترجمتها إلى صور"، حسب ما ذكرت المخرجة والناقدة والكاتبة الأمريكية سوزان سونتاغ في مقالتها On Photography.
ومن ثَمَّ، فهناك خيط ممتد يربط صوراً مطبوعة في الذاكرة ببعضها، وهو بمثابة شعورٍ مشترك بالأخوة والإنسانية، مع أنَّ تلك الصور التُقطَِت في أماكن وأزمنة متباعدة.