"سوف أجعل تطبيقات العلاج الذري أرخص من أقراص الأسبرين"، تلك الجملة التي أرسلتها العالمة المصرية سميرة موسى في سياق إحدى رسائلها لأبيها؛ كانت يوماً ما حلماً من أحلامها الكبيرة.
كانت واثقة بأنها تستطيع، في يوم من الأيام، أن تتحدى المألوف، وتجعل من علوم الذرة وتطبيقاتها علماً مصرياً وعربياً متفوقاً.
سطع اسم سميرة موسى وتردَّد في دوائر العلوم العربية والمصرية، وحتى العالمية، بداية من كونها أول عربية ومصرية تقتحم مجال دراسة الذرة وتطبيقاتها في فترة عصيبة من تاريخ الأمة العربية، إلى حادث وفاتها الغامض في 15 أغسطس/آب عام 1952 وهي بعمر 35 عاماً، والذي حلَّت ذكراه الأربعاء.
تلميذة أعادت صياغة المنهج الدراسي.. وأسست معملاً للعلوم!
في قرية صغيرة بمحافظة الغربية تدعى "سنبو الكبرى"، ولدت سميرة موسى عام 1917، لأب متوسط الحال، وتلقت تعليمها الأساسي بقريتها، وأظهرت براعة في تعلم وحفظ القرآن. كانت الابنة الرابعة لوالدها، الذي أصرَّ على ألا يفرّق في التعليم بين بناته السبع وأبنائه الذكور، ولكن ما ستحققه ابنته لم يكن أبداً في الحسبان.
توفيت والدتها في سن مبكرة ما دفع والدها لاصطحاب ابنته، والانتقال بها إلى العاصمة القاهرة. أقام هو وابنته في حي "الحسين"، والتحقت بالمدرسة الابتدائية، وبعدها الإعدادية، وأظهرت نبوغاً مبكراً، وتفوقاً غير مسبوق.
حصلت عام 1935 على الترتيب الأول بين المتخرجات في شهادة التوجيهية على مستوى الجمهورية، وهو الأمر الذي لم يكن شائعاً بين الفتيات في تلك الحقبة.
في عامها الأول بالدراسة الثانوية، كان لها إسهام مباشر وهي لا تزال فتاة صغيرة، إذ استطاعت أن تعيد صياغة أحد الكتب الدراسية المقررة على الطالبات في مادة "الجبر"، وقامت بمساعدة والدها بطباعة الكتاب المعاد صياغته على زميلات صفها.
كما كان لها دور رئيسي في إنشاء معمل للعلوم في مدرستها، التي كانت تديرها وقتها شخصية نسائية مصرية رائدة هي "نبوية موسى"، التي كانت أول فتاة تحصل على شهادة دراسية في مصر، وأسهمت بعد ذلك بقوة في مجال تعليم المرأة.
في ظل آينشتاين العرب.. نبغت أكاديمياً واقترحت طاقة نووية أرخص!
وبعدما تخرجت بتفوق من المحلة الثانوية، اختارت "سميرة موسى" كلية العلوم، بخلاف ما كان شائعاً عن اختيار الفتيات الأول، وهو كلية الآداب.
وكانت تلك بداية خطواتها نحو مسيرة غير مسبوقة في مجال العلوم، الأمر الذي بدأ فعلياً بعد أن لفت تميزها، وتفوقها نظر عبقري آخر، وواحد من أقطاب العلوم المصريين، وعميد الكلية آنذاك، الفيزيائي العربي الكبير "مصطفى مشرفة" الملقب بـ "آينشتاين العرب"، الذي تنبأ لها بمستقبل باهر.
عام 1938 حصلت سميرة موسى على شهادة بكالوريوس العلوم بامتياز مع مرتبة الشرف من جامعة القاهرة، وتحديداً في فرع الأشعة السينية "أشعة إكس"، وأثرها على المواد المختلفة.
وكانت تلك خطوة أخرى قادها خلالها أستاذها "مصطفى مشرفة"، إذ رأى أنها أجدر من غيرها بالتعيين للتدريس في الكُلية.
وكان إصرار "مشرفة" على نبوغ سميرة موسى هو السبب الرئيسي وراء تعيينها مُدرساً مُساعداً بالكلية، ثم توجيهها إلى الحصول على درجتى الماجستير في "التواصل الحراري للغازات" عام 1939.
ثم سافرت بعد ذلك إلى لندن لدراسة النشاط الإشعاعي، ومن هناك حصلت على درجة الدكتوراه في الإشعاع الذري.
بعد حصولها على الدكتوراه قامت بالعديد من الأبحاث التي لم تلق رواجاً كبيراً في الأوساط العلمية وقتها، من أهمها بحث حول إمكانية تفتيت أنوية الذرة في معدن النحاس بطرق غير مُكلفة، بعكس الانشطار الذري المُكلف باستخدام المواد المشعة مثل اليورانيوم أو البلوتونيوم، مما يعني إنتاج طاقة نووية أرخص بكثير مما كان شائعاً وقتها.
كما تطوَّعت بنفسها للإشراف على العلاج الإشعاعي لمرضى السرطان في عدد من المستشفيات، خاصة أنه كان أحد أسباب فقدانها أمها في سنٍّ مبكرة.
بينما يخطو العالم نحو الدمار.. كانت هي تفكر في إنقاذ البشرية
انفجار القنبلة الذرية الأميركية على مدينتي "هيروشيما" و "ناغازاكي" عام 1945، كان حدث جلل هزَّ العالم أجمع آنذاك، وكان لتلك الكارثة أثر خاص على سميرة موسى، فتبنت مبادرة عالمية شهيرة آنذاك، عُرفت باسم "الذرة من أجل السلام".
دعت إلى مؤتمر دولي، يحضره العديد من العلماء المشاهير في مجال الدراسات النووية، وشكَّلت لجنة للتوعية من أخطار الأسلحة الذرية وآثارها.
وبعد ما يقرب من ثلاثة أشهر على حرب فلسطين وبدء الاحتلال الإسرائيلي، أسست سميرة موسى هيئة الطاقة الذرية المصرية، وبدأت أبحاثاً أخرى حول تسخير الطاقة الذرية، وخبراتها في مجال الإشعاع الذري لعلاج الأمراض الخبيثة، أي عندما رأى العالم انشطار الذرة بمثابة سلاح فتاك، ضامن للسيطرة، كانت "سميرة موسى" ترى تطبيقات الذرة والإشعاع الذري بوابة لتسخير قوى العلم في أغراض نبيلة، نفعية للبشرية، بدلاً من تدميرها.
الأجنبية الوحيدة التي وطئت قدماها المنشأة النووية الأميركية!
كانت المنحة الأميركية Fulbright Atomic Program الموجهة لسميرة موسى عام 1952 واحدة من الأمور التي تدعو للفخر، في أوقات كانت الفتيات على قدر ضئيل من التنوير والحرية.
تلك المنحة التي جاءتها من جامعة كاليفورنيا لدراسة المنشآت الذرية الأميركية كجزء من البرنامج الدراسي، نظراً لإسهاماتها على المستوى العالمي في أبحاث الذرة.
ورغم أن الإعلام الغربي لم يذكر الكثير حول "سميرة موسى"، فإن مجلة Physics today الأميركية الشهيرة خصَّصت لها صفحة مُبسطة، تخليداً لذكراها، وإقراراً بريادتها، وحتى إنها ذكرت أنها المواطنة غير الأميركية الوحيدة وقتها، التي تمكنت من الدخول إلى منشأة نووية أميركية، وهو الأمر الذي أثار الجدل آنذاك داخل أميركا.
كما عرضت السلطات الأميركية عليها إقامة، وجنسية أميركية للبقاء واستكمال أبحاثها الرائدة في مجال الذرة لحساب الولايات المتحدة الأميركية، إلا أن سميرة موسى ردت ردها الشهير: "عندي وطني العزيز مصر، بانتظاري".
وفي صباح يوم الخامس عشر من أغسطس/آب 1952، انقلبت السيارة التي كانت تحملها من فوق تلال "كاليفورنيا" الوعرة، ولقيت مصرعها في سن 35 عاماً، وكانت آخر رسائلها لوالدها هي:
"استطعت أن أزور المعامل الذرية في أميركا، وعندما أعود إلى مصر سأقدم لبلادي خدمات جليلة في هذا الميدان، وسوف أخدم قضية السلام".
الوفاة التي أثارت كل الشكوك.. ما بين الموساد والأميركيين
مصرع سميرة موسى كان ولا يزال واحداً من أكثر الحوادث التي حامت حولها شبهات الاغتيال، ما بين تهم موجهة لجهاز الاستخبارات الإسرائيلي الموساد، الذي اعتبر سميرة موسى "خطراً عربياً" كبيراً يجب التخلص منه، أو الأميركيين الذين رأوا أنه ليس من مصلحة قوة عظمى أن تترك لمصر عالمة بقدرات سميرة موسى.
ففي 15 أغسطس/آب عام 1952، وعلى طريق كاليفورنيا الوعر المرتفع، ظهرت سيارة نقل فجأة؛ لتصطدم بسيارتها بقوة وتلقي بها في وادٍ عميق.
ظهرت على مر السنوات العديد من التحقيقات الصحافية التي اتهمت الموساد الإسرائيلي باغتيال موسى بمعاونة الممثلة المصرية اليهودية "راقية إبراهيم"، التي تركت مصر وسافرت إلى أميركا عام 1954، وكانت على صداقة حميمة بالعالمة.
وفقاً لمذاكرات راقية إبراهيم الشخصية، التي نشرتها حفيدتها في أميركا، فإن الممثلة المصرية علمت بموعد إحدى زيارات سميرة موسى إلى أحد المفاعلات النووية في الولايات المتحدة، فقامت بإبلاغ الموساد الإسرائيلي، ليتم اغتيالها في حادث يوم 15 أغسطس/آب عام 1952.
وحتى اليوم ما زالت الشكوك تحوم حول اختفاء سائق سيارة سميرة موسى المحطمة، وهو زميل دراسة لها، هندي الجنسية. إذ لم يُعثَر في السيارة المهشمة سوى على جثة "سميرة موسى" فقط.
أعيدت بعدها جثتها إلى مصر، وكُرمت من قبل الجيش المصري عام 1953، وحصلت على وسام الدولة للعلوم والفنون عام 1981 من قبل الرئيس المصري الراحل أنور السادات، كما أطلق اسمها على إحدى مدارس وزارة التربية والتعليم بقريتها، وتقرر إنشاء قصر ثقافة يحمل اسمها في قريتها عام 1998.
رحلت سميرة في ظروف غامضة، ولكن ظلَّت سيرتها، وإنجازاتها تتردد حتى اليوم، كرائدة علم الذرة النسائي العربي.