لا أحنُ إلى خُبز أمي!

أُم في الخامسة والسبعين من عُمرها تتجرد من كل الصفات إلا أعظمها، كانت في مقطعٍ مُصور يحكي حالتها التي تتجسد بأن رزقها الله بثلاثة أبناء بلا عقل، أكبرهم يبلغ من العمر 60 عاماً، كل تفصيل في هذا المقطع آسر، ولكن أشدها أسراً حين سُئلت إن حاولت يوماً تركهم في مصحة لعلاج هذه الحالات ومنحهم الرعاية اللازمة.

عربي بوست
تم النشر: 2018/02/17 الساعة 02:29 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/02/17 الساعة 02:29 بتوقيت غرينتش

أُم في الخامسة والسبعين من عُمرها تتجرد من كل الصفات إلا أعظمها، كانت في مقطعٍ مُصور يحكي حالتها التي تتجسد بأن رزقها الله بثلاثة أبناء بلا عقل، أكبرهم يبلغ من العمر 60 عاماً، كل تفصيل في هذا المقطع آسر، ولكن أشدها أسراً حين سُئلت إن حاولت يوماً تركهم في مصحة لعلاج هذه الحالات ومنحهم الرعاية اللازمة.

قالت: "إنه لأهون علي أن يموت أحدهم وأنتحب عليه على أن يُؤخذ مني"، كل قلوب الناس مُجتمعة بعظمتها لن تساوي قلب الأم على ولدها، أحسستُ بها جداً، إنه لأهون عليّ أن يموت ولدي على أن يؤخذ منّي!

أما أنا، فلم تعِش أمي لأكثر من ستة وثلاثين عاماً ولم تكُن من الجيل الذي يخبز، ولا التي تملأ تنورها بالوقود، ولا تلك التي تنشر غسيلها على حبل غسيلٍ على سطح دارها!

ولم تكن تلبس الثوب الذي يصفه الخيط الملوح بذيل ثوب أم درويش، ولم أشاركها يوماً فنجان قهوتها، فآخر مرة شاركت أمي صباحها كُنت في السادسة عشرة من عمري ولم يكُن مسموحاً لي شُرب الشاي ولا القهوة حسب قوانينها، ولم تُفضل موتي على أن يأخذني أحدهم منها!

أمي كانت أصغر من كل هذه التفاصيل القديمة، كانت من الأمهات الأنيقات الحريصات جداً على الجمال، فأحنُ إلى كحل أمي.

وكانت لا تجيد الطبخ كما يجيد أبي، ولكنها تصنع بسكويت اليانسون الذي لم أختبر ألذ منه في حياتي قبلها ولا بعدها، فأحن لليانسون من فرن أمي.

وكانت كاتبة وشاعرة ومعلمة ومربية، وكانت فنانة في الزخرفة والرسم على الزجاج، فأحن جداً لألوان أمي.

ولكني يا درويش صدقاً أحس بطعم خبز أمي الذي لم يُخبز، وأنشر غسيلها على سطحها الذي لا يملك حبلاً، أحترق بتنورها وأتعمد كما العشب من طهر كعبها الفتي الناعم.

وأكاد أقسم أن قهوة أمي التي لم أشربها ألذ من قهوة أمك وأمهاتكم جميعاً.

أحن إلى كل أمي، إلى صوتها السعيد وهي تُحادث إخوتها، إلى نظرتها المشتاقة لوالدها، إلى توبيخها وفخرها ومرضها.

أحن إلى رائحة المستشفيات والأدوية والأطباء الأصدقاء، أحن إلى حزن في قلبي عليها، أحن لاسمها على شاشة هاتفي.

أحن إلى خوفي من إغضابها، وأحن إلى كذبي الذي كان ينجيني من عقابها، أحن لكوكب كان أكسجينه يحظى بشرف تنفسها، ولدفاتر طلابها وقلمها الأحمر ووسائل تحضيرها.

يا أمي، ما فكرت يوماً أني سأحن لتفاصيلك القصيرة، وكنت أعتقد بأنني لا أحن لشيءٍ بك سوى حنيني لحضن يُقال له حضن أمي.

ولكني أحن لكلك، حتى لقبرك الذي يحتضن طهرك أحن، وللتراب الذي يغطي ملامحك أحن. ولكل من يجاورك قبره أحن.

صدقيني يا أمي أحبك أكثر مما أحب درويش أمه، وقهوتها، وخبزها، وأكثر من كل الذين يحنون لأمهاتهم العظيمات، وإنه لأهون عليّ أن تموتي على أن يأخذك أحدهم منّي، ولكن لا هيِّن لأنك الاثنين، مِتِ وأُخذتِ.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد