أول يوم مدرسة، هل تتذكر تلك الليلة التى تسبق أول أيام دراستك في طفولتك؟ تتذكر اللحظات الأولى عند استيقاظك؟ الملابس الجديدة برائحتها المميزة؟ الحليب الذى شربته متأفِّفاً ربما؟ الحماسة الشديدة المختلطة بالتوتر الذي شعرت بها؟ دموعك التى قد تكون ذرفتها خائفاً من المجهول، ولكن هناك نشوة ما تشعر بها؟ هل استرجعت كل هذه المشاعر؟!
قد يكون معظم ما تلا هذا اليوم من أيام مُحيت من ذاكرتك تماماً بكل ما فيها، لكن اليوم الأول بتفاصيله لا يُنسى، فكل ما شعرت به قد التصق بعقلك التصاقاً، وحتى إنك قد تسترجع تلك النغصة في طريقك إلى المدرسة وتسترجع صورةً ما كما لو كنت تراها رأي العين!
حسناً.. وهل حدث معك يوماً ما أن انسابت معلومة إليك وزُرعت واستقرت وكأنك قد علمتها منذ الأزل، تدفقت إلى داخل عقلك كاملة وأضاءت منطقة ما بداخله؟ هل اختبرت مثل هذا الشعور؟! إن الأمر لا علاقة له بدرجة ستحصلها أو جائزة ستستحقها، إنها فقط المعلومة خالصة.
ما الذى يجعل عقلنا يحتفظ بمعلومة أو ذكرى أكثر من أخرى؟ ما السر؟
الدوبامين:
السر يكمن في ذلك الناقل العصبي الذى يؤثر على الكثير من مشاعرنا وسلوكياتنا، في السابق كان يُعتقد أنه العنصر الأساسي فى إحساسنا بالمتعة والسعادة، ولكن ما اكتُشف لاحقاً كان غريباً، فقد وجد العلماء أن مستوى الدوبامين يزيد بشدة في أجساد الحيوانات عند حدوث أمور سلبية ضاغطة كخسارة معركة مثلاً! فكيف يفرز الجسم عند الخسارة الهرمون نفسه الذي يُفرزعند الحصول على جائزة قيّمة أو خوض مغامرة شائقة؟!
وبعد عدة أبحاث، توصَّل العلم إلى أن الدوبامين له علاقة بـ"التحفيز" أكثر من علاقته بالسعادة! إنه يعمل في جسدك كعمل زر (SAVE) بأجهزتك الإلكترونية، كلما ارتفع مستوى الدوبامين في جسمك بالمعدلات الطبيعية، زادت قدرتك على التركيز وتحفزت ذاكرتك العاملة؛ بل إنه أيضاً يعزز قدرتك على عمل مهام أكثر تعقيداً، فيزيد مستواه في جسدك أكثر ويحفزك للمزيد والمزيد من المشاركات الفعالة، وهذه العملية تسمى (دورة المحفزات للدوبامين Dopamine Reward Cycle)!
من أهم محفزات مستويات الدوبامين في الجسم، وضع تحدٍّ مناسب تماماً للشخص، ليس أعلى كثيراً من قدراته فيصيبه بالإحباط، وليس أقل كثيراً فلا يستفز إمكاناته للمحاولة.
الدوبامين في التعليم:
الكثير من العاملين في المجال التعليمي للأطفال والأهالي يعتقدون -خطأً- أن الطلاب المرحين كثيري الكلام والعلاقات الاجتماعية، أو الطلاب المهتمين بمجالات أخرى كالموسيقى والفنون والرياضة، ليسوا أكْفاء أكاديمياً.
ونتيجة لهذا الاعتقاد، يتم الضغط على الأطفال بوضع صورة نموذجية للطالب المثالي، وهو الذي لا يهتم في المقام الأول إلا بالتحصيل الدراسي والدرجات، وللوصول لهذه الصورة يلجأون إلى وسائل عديدة، قد تكون في أفضل الحالات "لوحة الشاطرين"، أو قد تصل حتى للعنف اللفظي أو البدنى.
الواقع أن ضغط الصورة المثالية بكل وسائله يُفقد الطالب واحدة من أهم المحفزات للتعلم هو "إدمان التعلم".
إدمان التعلم، هذا الدافع الذاتي الخفي الذي يُلغي من حسابات المتعلم حاجته للجوائز الخارجية تماماً، الدوبامين في جسده كافٍ ليشعره بالاكتفاء من داخله، إنه لا يحتاج لمراقب يضربه على يده لينتهي من واجبه المدرسي، أو وعد بجائزة كبيرة إذا حقق صورة الطالب المثالي بنجاح.
ما الفائدة من تحصيل معلومات تُصبّ صباً في ورقة ولا يبقى منها في عقل المتعلم إلا الفتات، ويكون مصير تلك الورقة بمعلوماتها القمامة بعد ذلك؟ هل اللوحة على الحائط ساعدته حقاً على التعلم، أم إنها أعطته دفعة لحظية مزيفة من الرضا الذاتي ستفقد قيمتها مع مرور الوقت؟
طريقان:
الطريق الأول: هناك طفل في غرفة مغلقة يطلب منه معلمه أن يحسب المساحة السطحية الجانبية لمتوازي أضلاع، يخبره المعلم بكل المعطيات المطلوبة: الأبعاد وقوانين حساب المساحة السطحية للأشكال المختلفة، ساعِد الطالب بكل ما يحتاجه من معلومات ستؤهله للنجاح بتفوق في الاختبارات، أشعِل المنافسة بين طلبته من سيكون أفضل وأسرع في الحساب.
هذا مُعلم قد أتمَّ دوره التعليمي على أكمل وجه حقاً، هل تتفق معي؟ إذاً لندخل الطريق الآخر: طفل مع معلمه وأقرانه يتجولون بِحُرية في هواء طلق بلا جدران تحجمهم، يتكلمون عن أشكال جذوع الشجر (الأسطوانية)، وإذا بطائر جميل يحلّق فوقهم فتأملوه باهتمام ولاحظوا منقاره (المخروطي) الجميل.
في رحلة العودة، طلب منهم معلمهم أن يُحضروا كمية مناسبة من دهان الحوائط؛ لأنهم سيدهنون حائط فصلهم عند العودة..هذا سيتطلب منهم التعاون معاً لحساب المساحة السطحية الجانبية للغرفة التي توصلوا بعد نقاش قصير إلى أن شكلها متوازي أضلاع. هل تغير رأيك في الطريق الأول قليلاً؟!
أنا أعلم أن الطريق الثاني يبدو خيالياً وغير قابل للتطبيق في الغالبية العظمى من المؤسسات التعليمية، لكنك أنت كمعلم تستطيع أن تحفز الكثير من الدوبامين في عقول المتعلمين فيتخطوا معك حدود جدران الفصل وأنتم مكانكم، اجعل ما يتعلمه الطلاب جديداً وممتعاً ومرتبطاً بحياتهم اليومية وبخبراتهم واهتمامتهم.
أثِر فضولهم واسمع آراءهم بجدية واهتمام وتعلَّم منهم ومعهم وساعدهم على اكتساب ثقتهم بأنفسهم، استخدِم القصص والخيال والألعاب الذهنية والحركية، كل مهارة يمارسها المتعلم خارج حدود الجدران لها دور مهم، الرياضة والفنون ليست أموراً ثانوية في التعلم، تستطيع أن تستخدمهم كفرش تلوّن العلم في عقول طلابك بألوان مبهجة، يسِّر لهم الوصول لتلك اللحظة الذهبية لحظة (أهاااا) عندما تجلب روح الطريق الثاني في غرفتكم المحدودة.
وأنت أيضاً ستنال نصيبك من الدوبامين معهم!
تقول جودي ويليس الباحثة في علم الأعصاب: "إن أبحاث المخ تخبرنا الآتي: إذا توقف المرح، توقف التعلم".