لا يزال الكثير من الآباء يعتقدون أن الأطفال يولدون من دون أي سمات أو قدرات مسبقة، وأن ما يحدد شخصياتهم وسلوكياتهم ومهاراتهم هو فقط ما يحدث لهم من تجارب وأحداث خلال تعاملهم مع الأهل والمجتمع.
التعامل مع الأطفال كورقة بيضاء نكتب عليها ما نشاء، أو عجينة صماء يمكننا تشكيلها بالشكل الذي يرضينا- يظلمهم كثيراً ويدمر قدراتهم الفطرية.
ظهرت في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين فكرتان جديدتان على علم النفس، ومن بعدهما حدث تغير كبير في علم النفس وعلوم الخلايا العصبية والمخ.
الفكرة الأولى: المرونة العصبية للمخ وتغيُّره وفقاً للتجارب والتغيرات والمحفزات المحيطة به.
الفكرة الثانية: كل شخص يولد معه قدرات فطرية وقد تؤدي إلى نجاح ورضا وإنتاجية في الحياة إذا تمت العناية بها ورعايتها.
تؤكد هاتان الفكرتان الاعتقاد بقوة الصمود النفسي للإنسان وقدرته على مواجهة وتخطي تحديات الحياة.
تأخذنا أيضاً مثل هذه الأفكار إلى نظرية الذكاءات المتعددة، التي وضعها غاردنرعام 1983، وهو يُعتبر من أوائل من بحث في فكرة القدرات الفطرية، حين قال إن الذكاء ليس فقط في التواصل اللغوي والتفكير المنطقي، ومن قبل كل هذا قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلّ ميسَّر لما خلق له".
فكما قال غاردنر: "للبشر نطاق واسع من القدرات وكل شخص تزيد قدراته في جوانب عن جوانب أخرى". هذه القدرات والطاقات المختلفة هي ما تجعل كل شخص فريداً ومميزاً، وافترض غاردنر أن مناطق القوة هذه "تنشأ نتيجة للسمات والطبائع الشخصية التي يولد الإنسان بها مع تجارب وظروف الحياة والبيئة المحيطة به".
فالبشر ليسوا نُسخاً مكررة، ولا يمكننا تشكيل من نريد على النحو الذي نريد، وأكبر دليل على ذلك الأطفال في الأسرة نفسها ويتعاملون بالطريقة نفسها ويتعرضون للتجارب والبيئة المحيطة نفسها، ومع ذلك تجد لكل منهم سمات وطبائع شخصية مختلفة حتى التوأم!
يأخذنا ذلك أيضاً إلى ما قام به بعض العلماء بداية من الخمسينيات من هذا القرن وما يليها، وهو دراسة السمات والطبائع الخاصة بالأطفال، وهي 9 سمات شخصية يولد الطفل بدرجات متفاوتة لكل منها وهي:
1- درجه النشاط
2- الانتظام
3- الاستجابة للمواقف الجديدة
4- التكيف
5- المثابرة
6- درجة التشتت
7- شدة التفاعل
8- المزاج
9- الحساسية
يولد كل طفل بدرجة ما لكل سمة من تلك السمات. فهناك الطفل الذي لديه درجة مثابرة مرتفعة، فقد يجلس فترة طويلة في مهمة أو نشاط ما، وطفل آخر درجة مثابرته أقل فهو يقوم بأكثر من نشاط، ولكن الأهم أن ندرك أن هذا الطفل ليس أفضل من ذاك؛ فقد يصبح الطفل ذو درجة المثابرة الأقل قائدَ مؤسسة ناجحاً يدير العديد من الأقسام والأشخاص ومتعدد المهام، ويصبح الطفل الآخر ذو درجة المثابرة العالية جراحاً ماهراً يستطيع القيام بالعمليات الجراحية الدقيقة التي قد تصل لساعات طويلة.
وإذا ذكرنا مثلاً، سمة الاستجابة للمواقف الجديدة، فهناك طفل يندمج بسهولة وسرعة في الأماكن الجديدة ومع أشخاص لا يعرفهم، وطفل آخر بدرجة متوسطة، وطفل آخر بدرجة أقل ويحتاج وقتاً أكثر للاندماج مع من لا يعرفهم. وبالفكرة نفسها أيضاً، لا يوجد طفل أفضل من طفل، لكلٍّ مميزاته. قد يتعرض الأول لمشاكل أكثر مثلاً.
في النهاية، أانصح جميع الآباء بالآتي:
أولاً: إدراك أن الأطفال يولَدون بسمات وطبائع وقدرات فطرية.
ثانياً: تفهُّم وتقبُّل تلك السمات والقدرات.
ثالثاً: رعاية وتشجيع وتعزيز تلك السمات والقدرات الفطرية.
رابعاً: عدم محاولة تغييرها بحجة أن الأطفال ورقة بيضاء نكتب عليها ما نشاء أو عجينة صماء نستطيع تشكيلها كما يروق لنا.
لا يعني ذلك بالطبع، أن طريقة التربية وبيئة الطفل المحيطة والتجارب التي يتعرض لها غير هامة وليس لها تأثير، ولكن ما يجب علينا هو أن نتقبل أطفالنا باختلافاتهم وتميّز وتفرّد كل منهم. نراعي ونحفز ونطور كما نشاء، ولكن في نطاق التقبل والتفهم لسماته وقدراته الفطرية.
يضيع الطفل في أثناء محاولاتنا تشكيله ويصبح مَسخاً، فهو بهذه الطريقة لن يستطيع أن يصبح الشخص الذي نُريد، وللأسف الشديد، لن يبقى الشخص الذي هو عليه. وتتوه هويته بين سماته وقدراته وأحلامنا وعدم تقبّلنا ويتعلم عدم التقبل لنفسه ولا التقدير لذاته ويظل حائراً بين عدم القدرة على أن يصبح شخصاً مختلفاً عن نفسه وعدم القدرة على تقبُّل صفاته وقدراته وأن يصبح نفسه.