يُنسب لأينشتاين قول شهير، مفاده "إذا لم يمكنك شرح أمر ما لطفل في السادسة من عمره، فأنت لم تفهم هذا الأمر بما يكفي". وعلى الرغم من عدم موثوقية نسبة هذه المقولة إليه، فإن هذه الفكرة تعد من السمات الراسخة لتقديم العلوم في العصر الحديث.
فقد نشأت تحت هذه الفكرة الكثير من المبادرات والمشاريع والصيحات الهادفة إلى تبسيط العلوم والدعاوى أن ما نواجهه من صعوبات في استيعاب العلوم المتقدمة، كالفيزياء والكيمياء، إنما هو بسبب سوء الطرح وشعور الطالب بالملل.
وبهذا نشأ فرع كامل من العلوم يدعى بـ"تبسيط العلوم Science Communication يهدف إلى حل هذه المعضلة والوصول بأعقد الأفكار إلى أبسط العقول. وصار من المألوف أن نسمع بالعلم الشعبي Popular Science وبالترفيه التعليمي Edutainment، وغيرها من المفاهيم المستحدثة التي نشأت لمخاطبة هذا الاحتياج الشديد لتيسير الوصول لفهم كُنه هذه العلوم المعقدة.
ولكن، كما يحدث مع كل صيحة أو تقليعة جديدة، خرج على العالم من يبالغون في اتباعها، حتى صارت هناك كتب تباع على أمازون لتعليم البرمجة وتصميم الويب للأطفال الرضّع! وهكذا خرج علينا "كريس فيري Chris Ferrie"، العالِم المتخصص في بحوث الرياضيات والفيزياء، بفكرة مجنونة: لِم لا نشرح أحدث وأعقد نظريات الفيزياء الحديثة (والتي يحار فيها طلبة الجامعات العلمية) للأطفال الرضَّع والدارجين؟
وقد نشأت فكرته أولاً بدافع مشاركة أطفاله الأربعة في خبراته وميوله كعالِم للفيزياء النظرية. فكتب عدة كتب مبسطة وموجهة للرضَّع، ولكنها تناولت موضوعات مهيبة عن النظرية النسبية والفيزياء الكمومية وعلم الصواريخ! ونشرها على الإنترنت كفكرة شخصية، تلقفتها إحدى دور النشر لتتحول إلى سلسلة كتب تدغدغ وتر التميز عند الآباء والأمهات، في عصر صار فيه التكالب على إدراك تلك المفاهيم يساوي التصارع على تحقيق منزلة ومستقبل أكثر رقياً عند البعض.
ولعل هذه السلسلة كانت ستبقى مغمورةً لا تصادف قبولاً إلا لمن عنده ميول فيزيائية ويريد أن يتندر بأنه يحكي لطفله عن هذه التعقيدات المتطورة، أو لمن ينخدع بتلك العناوين البراقة ويظن حقاً أنه يعد أينشتاين المستقبل، وربما كانت ستظل مغمورة لولا أن خرج علينا مارك زوكربيرغ في صورة عائلية دافئة وهو يحكي لطفلته الرضيعة -التي لم تستكمل شهرها الثالث- من أحد هذه الكتب ويرسم ملامح الحنان الأبوي الناشئ عند من قام بواجبه في تمييز طفله عن "العاديين". الصورة تميزت بزاويتها المتميزة التي تظهر كل شيء: الطفلة مفتوحة العينين والأب المبتسم والأم الممتنة والكتاب وعنوانه المثير "فيزياء الكم للرضَّع"!
وهكذا انفتحت أبواب الشهرة على الكتاب المغمور، فتناقلت الخبر صفحات التواصل الاجتماعي، ثم مواقع الأخبار. وصار الأمر يشبه برمته حُمى الذهب. لقد انطلق الآباء والفضوليون لمعرفة هذا الكتاب الرائع المهم (وبنظرة على معدل البحث عن عنوان الكتاب، نجد أنه ظل طيلة عامين لا يكاد يُذكر، فقط ليقفز إلى الذروة في البحث خلال شهر أغسطس/آب وسبتمبر/أيلول من هذا العام!).
وتباينت ردود الفعل ما بين مكذِّب للخبر ومنبهر به ومحبط؛ لأنه لن يمكنه أبداً أن يصل لهذا المستوى مع أطفاله. وظهرت في زحام الصفحات بعض الأصوات العاقلة التي تحذر من هذه المبالغة وتشير إلى عدم جدواها، استناداً لما أوصله لنا العلم الحديث (الذي لم يقرأه مارك غالباً) عن كيفية عمل عقولنا منذ الولادة وحتى الموت.
قبل الشروع في سرد الدروس المستفادة من هذه الخبرة السلوكية لجموع مرتادي الفيسبوك، يجب التعليق وبسرعة على ما تحتمله هذه الصورة من معانٍ. فالطفل في عمر شهرين لم يتعلم أصلاً كيف يبصر جيداً، فعيناه لم تتمَّا التوافق بينهما coordination بشكل كامل بعد. وهو لا يزال يدرب مخه على تمييز الألوان بعضها من بعض، فهو يبصر الآن بالأبيض والأسود، وأغلب ما يراه هو سحابة رمادية إلا من بعض التفاصيل ذات التباين الكبير في اللون High contrast.
فلو كانت الصورة حقيقية، فماذا كان يتوقع مارك وهو يفتح الكتاب أمام وجه فتاة لا يمكنها أن تبصر ما فيه؟ الأمر يبدو أنه مزحة إذاً، أو أن مارك لا يفقه ماذا يفعل. وحتى لو فرضنا أنها تجاوزت تلك المرحلة، فالكتاب يتكون من 25 صفحة متصلة، فهل يتوقع مارك أن طفلته ستتابع معه أو تركز بينما يقرأه لها؟ ليكن هذا درساً جيداً لمن انبهروا أو شعروا بالإحباط والتقصير: مارك لم يكن يفهم ما يفعل، وأنتم بحاجة لفهم ما يحتاجه أطفالكم حقاً بدلاً من التحسر على ما لا طائل من ورائه.
الملحوظة الثانية والأهم، هي مسارعة الناس للبحث عن الكتاب وشراء نسخة منه وكتابة مراجعات له وتحميله مجاناً على الإنترنت لمن لا يمكنه أن يشتريه (مصر طبعاً لها الريادة هنا!)؛ بل وترجمته للعربية، ثم سرقة هذه الترجمة من موقع لآخر!
إن الأبوين في بحثهما عن الأفضل يتعاملان بعقلية (تخفيضات الموسم)، حيث يسارعون بالجري وراء الطابور المزدحم. هل رأينا هذا من قبلُ؟ طبعاً، رأيناه في مونتسوري، ووالدروف، ونور البيان، والقائمة طويلة حقاً. وفي كل مرة نسمع الشكوى المتكررة ممن لم يتمكن من تحصيل المنهج أو أدواته أو دورته التدريبية.
صحيح أن الحرص على مصلحة الطفل ومستقبله وتنمية مهاراته هو أمر صحي وسليم، ولكن ليست هذه هي الطريقة. فالتربية ليست مسابقة لإظهار المواهب ومقارنتها؛ بل هي أن تتيح للطفل أن يسير على طريق تطوره ويصل لأفضل ما يمكن أن توصله إمكاناته وميوله. التربية هي أن توفر البيئة المناسبة للنمو السليم المتوازن، لا أن تستعجل الثمرة أو تحاول أن تجبر شجرة التفاح على أن تنبت عنباً.
يمر الطفل بمراحل محددة وواضحة المعالم، وكل مرحلة لها متطلبات واحتياجات يعبِّر عنها الطفل بحسب إمكاناته. هذه المراحل هي فرص، لو اقتنصها الأبوان، بتوفير البيئة المناسبة والحاضنة الثرية، فستكون كل مرحلة هي انطلاقة في مهارات الطفل. أما لو انشغل الأبوان عن هذه المرحلة بالجري وراء التقاليع والموضات، فإنهم بذلك يتساوون مع من أغلق على طفله صندوقاً وفتح منه ثقباً صغيراً ليطمئن عليه منه.
اعرف متى يحتاج طفلك أن يشاهد صوراً بالأبيض والأسود والأحمر؟ (6 أشهر) متى يحتاج أن يداعب الألعاب ويمسكها؟ (الشهر الثالث) متى يبدأ في الاهتمام بالتفاصيل الدقيقة؟ (بعد 8 أشهر) ومتى يهتم أكثر بالعبث في أغراضك الشخصية وأثاث البيت المألوف له؟ (بعد العام الأول).
اعرف كيف تنمي عنده حاسة اللمس في وقتها المناسب؟ متى يجب أن تشجعه على الإنصات وتمييز الأصوات؟
اعرف أنك بحاجة للقراءة له كثيراً، لا ليتعلم فيزياء الكم، ولكن ليبني في عقله البناء المعرفي اللغوي.
اعرف ما يحتاجه طفلك حقاً ثم لا تلتفت بعيداً ولا تهتم بما لم تحصله.