هذا الصباح قررتُ أن أصاحب طفلي إلى حصة التطعيم، وحيث أن الدولة المغربية قد تكرمت على رعاياها بمجانية التطعيم، قررتُ أن أصطحب ابني إلى المكان الذي طُعمتُ فيه أنا حينما كنتُ في مثل سنه..
الطريق كالعادة في هذه المدينة يتنفس الدخان أكثر ما يوزع الأوكسيجين على المستعمليه بالقسطاس، والوجوه المتبرمة تشي بأشخاص يختفون وراءها، مستعدون للانفجار في أية فرصة قريبة، حتى وإن كان استعمالا لمنبه السيارة، ضجيج، تلوث، وجوه متبرمة، لا شيء يبعث على التفاؤل على الأقل في الطريق، طفلي الصغير، لا يزال يشير إلى كل سيارة بإشارة من سبابته، كل سيارة تمر، أو دراجة نارية يناديني باسمي و يشير عليها، وعلي أنا أن أقول له في كل مرة: أوه إنها سيارة، أنها دراجة نارية، إنها دراجة هوائية. فيضحك في كل مرة، و لكني من إشاراته لا أمل، أتساءل فقط، عن موقفه حينما سيبدأ في الكلام، لا بد أنه ثرثار كأبيه، و سيملأ الدنيا أسئلة، ويجب علي من الآن أن أبحث عن إجابة. الشيء الأكيد عندي الآن أنه لا يعلم الوجهة التي نؤمها، وإلا ما كان فارق أمه وأتى معي.
بين الفينة والأخرى، وكلما اضطررتُ إلى الوقوف في الإشارة الحمراء، فوجئت بمتسول أو متسولين يهجمان على السيارات، يستجدون الصدقات، كالعادة أقفل النوافذ، وأعلي صوت المذياع، فمن كثرة ما رفعتُ يدي لهؤلاء، لأقول لهم "الله يسهل" كرهتُ في نفسي هذه الحركة. و الحقيقة أني لا أعطي النقود لمتسولي الإشارات إلا نادرا، ليس لبخل في نعوذ بالله منه، ولكن لعدم ثقتي فيهم. القاعدة عندي أن أصحاب الحاجة الحقيقيون، لا يسعفهم ماء وجههم على مد الأيدي لطلب الصدقة، وهؤلاء هم الذين أبحث عنهم وأعطيهم ما تيسر.
بعد نصف ساعة ونيف، وصلنا إلى مشفى الحي بشارع بوركون، بعمالة آنفا، الساعة التاسعة إلا ربعا، و جمع من النساء برفقة مواليدهن، يشكلن تجمعا صغيرة، كتلك التجمعات التي تتشكل إضرابا أمام إحدى الشركات. رباه إننا لا نعرف للنظام اصطلاحا، كيف ندخل في عقول هؤلاء أن النظام سيسهل الأمر كله، ويحيلنا إلى استخدام صحي للمصلحة. ترجل طفلي من السيارة، وعبثا حاولت أن أحركه من مكانه، ولكنه يشير بأصبعه إلى الأرض، فأدركت أن ثمة شيئا يحاول أن يريه لي، لا بد أنها قط . بالفعل، كانت هناك قطة متسخة الجسد تقتات على بقايا خبزة.. ابني مجنون بحب القطط، ويجب عليك إذا وجد قطة أن تكون ممثلا بارعا حتى تلهيه عنها. كالعادة استغرق الأمر مني ٥ دقائق من أجل أن أقنعه بالدخول إلى المشفى الذي ابتلع جموع الأمهات، حينما كنتُ أشرح لولدي أن القطة لا يمكنها مرافقتنا..
جاء دورنا أخيرا، دخلتُ، و كانت المفاجأة، أن الممرضة التي ستعطي اللقاح لابني هي نفس الممرضة التي أعطتنيه قبل أكثر من ٣٠ سنة. عرفتها أول ما رأيتها، استرجعتُ تلك الذكريات الأليمة التي كنتُ أقضيها هنا في هذا المشفى كل مرة كان يتوجب علي أن أخوض هذه التجربة. عرفتها ولم تعرفني، كانت شابة حينما كنتُ إحدى ضحاياها، فأكلت الأيام شبابها، وأصبحت عجوزا . مرور الأيام كفيل بتليين الحديد فما بالك اللحم والعظم.
بقيتُ أحملق فيها كثيرا، حتى انتبهت للالتهام في عيوني فسألتي قائلة بوجه متبرم:
ـ لماذا تحملق في هكذا؟
أخرجتني كلماتها الحادة من ذكرياتي فقلت:
ـ هاه، كلا لا شيء، الظاهر أنك كنت أول من أعطاني التلقيح في حياتي، وإني أذكرك جيدا.
لم يتغير شيء في قسمات وجهها، فردت ببرود.
ـ أنا لا أذكرك. ولكن هيا لا تضيع وقتي هكذا، ما الذي تنتظره؟ هيا، اقلع سروال ابنك، و ا تضيع وقتي.
تمتمت مخاطبا نفسي: تفو باقي.. هي هي. ما تبدلت فيها حتا زفتة. تبارك الله على السي مصطفى، اليوم غادي تتشوط.
سألته في حدة وكأنما سمعت شيئا مما قلت:
ـ آش قلتي؟
ـ لا والو ألالا، غير وكان نسيت الدفتر الصحي ديالو.
ـ هادشي فاش فالحين. واش يسحابليكم غير آجيو وديرو الدراري. راه المسؤولية هادي. ماشي غير ولد . ماشي موشكيل، يالاه جيب الدري و حطو هنا .
ـ أياه ألالا عندك الحق، الموشكيل فيا أنا اللي جايبو، و ما أنا آش لاحني لهادشي، كون صيفت ليك مو .
ـ مو ؟ هاهوما لعيالات معمرين الدنيا. فيناهوما لعيالات ديال شحال هادي . وا الدنيا تمسخت لا رجالا لا عيالات. فتبسمت و قلت :
ـ واش غادي تديري غير الصبر ألالا، دابا واش نحيدليه السروال ؟
ـ سربي سربي راه عندي مازال الخدمة .
نوعتُ سروال ابني الذي خمن ماذا سيحدث وبدأ في البكاء، فقالت بصوت مرتفع أخافه أكثر :
ـ هاي هاي هاي لفشوش كيف داير، مازال تا ما قصنا فيك و بارك تبكي . مازال ما جرنا ليك والو .
ـ ألالا، راه باقي دري صغير كايخاف .
ـ صغير على فم السبع، حنا قدو ككنا غير كانتجاراو فالزنقة .
في مجرة موازية و عند طبيب الأطفال :
تدخل السيدة باولا برفقة طفلتها هايدي ذات الخمس سنوات، فيدور بينهما الحوار التالي :
ـ انظري يا ماما، لقد غير الدكتور إيستيفان شكل العيادة، هناك رسومات زائدة على الجدران
ـ نعم. ولكن يا هايدي، لا أدري لم تحبين هذا الطبيب بالذات.
ـ إنه لطيف يا ماما، و يعاملني بحب، بالإضافة أنه جميل .
ـ أوه، أيتها المشاغبة .
تأتي السكرتيرة إلى غرفة الإنتظار وتخاطب الأم بابتسامة احترام
ـ سيدة باولا، أرجو أن تمديني ببطاقة التأمين أرجوك، وسبب الزيارة .
ـ أوه نعم تفضلي. في الحقيقة نحن هنا من أجل اللقاح .
ـ طبعا طبعا، تفضلا معي .
ما لبثت هايدي أن جرت باتجاه الطبيب وعانقته، فاستقبلها بحملها، بابتسامة حب كبيرة .
ـ هايدي. ماذا تفعلين؟
ـ مهلا سيدة باولا، اتركيها تعبر عن مشاعرها، ها كيف حالك يا هايدي؟
ـ الحمد لله، أنا بخير، تعلم لماذا أتينا اليوم يا دكتور؟
ـ هممم دعيني أخمن. صحتك جيدة، لا بد أنه اللقاح.
ـ نعم هو ذاك، ولكن لي شرط صغير، أن لا أشعر بالألم.
ـ لا عليك، لن تشعري إلا بوخزة صغيرة، ثم بعدها ينتهي كل شيء، هيا اكشفي لي عن فخذيك .
كشفت هايدي عن فخذيها، فقال الدكتور استيفان:
سأعد لثلاثة، ثم أعطيك أول حقنة، اتفقنا؟ هيا : واحد، اثنان..
ـ أي دكتور، قالت هايدي ضاحكة، هذا غش، أنت لم تكمل حد الرقم ثلاثة.
آل ستيفان ضاحكا: نعم هذا هو السر أيتها اللطيفة. والآن هيا إلى الحقنة الثانية.
ـ هل ستخدعني مرة أخرى؟
ـ كلا هذه المرة لن أعد إلى الرقم اثنان فقط، هيا: واحد…
ـ ضحكت هايدي و قالت: هذا ليس عدلا، عددت إلى الرقم واحد فقط.
ضحك الدكتور إيستيفان، وطبع قبلة على يد هايدي الصغيرة وقال:
ـ حسن، ها قد تم كل شيء، كيف حال الدراسة أيتها الأميرة؟
ـ بخير، أنا من الأوائل.
ـ جيد جدا، وهكذا أريدك دائما. هيا، خذي مني هذه، ولنضرب موعدا في لقاء قادم
الفرق بيننا وبينهم، أن بلادنا تحتوي على أطباء أطفال، وبلادهم تحتوي على أطفال أطباء. الفرق جملة مقلوبة، والحق أن مجرتنا نحن لا يمكن أن تلتقي بمجرتهم، إلا التقاء في نقطة اسمها: الأخلاق
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.