المكان اليوم لا يشبه سابق عهده، فالهدوء هو سيد الموقف لا يقطعه إلا صوت خطوات ناعمة لسيدة أوروبية الملامح، تطالعك بابتسامة عذبة وتلقي السلام بلغة عربية سليمة، هي خلاصة أكثر من 35 سنة قضتها في دمشق.
المكان هو منزلها الواقع في "باب شرقي"، الذي كان يعج بالزوار والمعارف قبل سنوات الحرب بالإضافة للأبناء.
أصبح اليوم فارغاً تسكنه هايك ويبر، وهي سيدة ألمانية اشتهرت قبل 2011 بإحيائها للتراث السوري من خلال تصاميم لأزياء وديكورات منزلية صنعتها أيدي سيدات سوريات ورثن فن التطريز والحياكة عبر قرون عديدة، وأسست علامة تجارية حملت اسم عنات أصبح مع الأيام مقصداً للكثير بمن فيهم زوجات زعماء دول وزوجات سفراء، طافوا بأعمالها مختلف دول العالم.
رفضت مغادرة سوريا
ويبر ما زالت تقيم في منزلها الدمشقي، تستمتع كل صباح بشرب قهوتها في "أرض الدار"، متأملة نباتاتها الخضراء التي تناغمت مع اللون الأزرق المحبب بالنسبة للسيدة الألمانية، التي قررت إضفاء لمسة خاصة بها للبيت الدمشقي العتيق، فلونت الباب الخارجي والدرابزين باللون الأزرق.
تخبرنا أنها ترفض مغادرة دمشق رغم أنها ليست سورية، هي تحب هذه المدينة كثيراً وتعتب حتى على السوريين الذي سافروا وتركوا بلدهم.
كيف كانت بدايتها في سوريا؟
تقول إن علاقتها مع دمشق قديمة، بدأتها منذ انتقلت مع زوجها وأولادها الثلاثة للعيش في هذه الدولة العربية. ولأنها لم تشأ التحول لربة منزل، بحثت عن مهن تقربها من سكان البلد، وتمنحها لغتهم وفي الوقت نفسه توفر لها دخلاً مقبولاً.
قبل مغادرتها ألمانيا، بدأت تطور مهاراتها في صناعة التحف والزينة من أدوات بسيطة تتوفر في غالبية البيوت، وحينما وصلت إلى دمشق أقامت عدة دورات لسيدات فلسطينيات في منطقة مخيم اليرموك.
تقول إنها اكتسبت هذه المهارة من جدتيها، فالسيدات الألمانيات شغوفات بتزيين منازلهن بأيديهن وابتكار دُمى وتحف من أشياء لا تخطر بالبال.
من الدروس إلى العمل
بعد عدة دورات، بدأت السيدات يسألن عن الخطوة الثانية بعد إتقانهن للدروس التي قدمتها لهن والتي كانت غالبيتها مستوحاة من التطريز و التراث الفلسطيني بشكل عام. هنا قررت العمل على تسويق منتجات هذه السيدات، ومن هنا كانت البداية الفعلية لمشروعها.
أسست مشغلاً لها في منطقة التضامن، وبعدما كانت الغالبية العظمى من العاملات فلسطينيات، توافدت سوريات أطلعنها عن تطاريز خاصة بمناطقهن، فقررت ويبر البحث عن فنون جديدة في القرى السورية وانطلقت جولاتها في قرى حلب والسويداء وغيرهما من المناطق وبدأت بتعليم السيدات والفتيات طريقة العمل.
منتج مميز من التراث
الفكرة التي كانت تشغل بال هذه السيدة الألمانية هي تقديم قطعة مميزة، وفي الوقت عينه مستوحاة من التراث المحلي.
كما كانت تبحث في كل مرة عن أفكار مبتكرة تخرج من مجرد تقديم وسائد أو أثواب غير عصرية، وتقول: "لم أكن أرغب أن يكون التراث للعرض فقط في البيوت، بل أردته أن يكون جزءاً من يوميات الناس".
Gepostet von Gallery Mustafa Ali am Sonntag, 10. Dezember 2017
لهذا يمكنك أن تجد في مجموعتها حقائب يد أنيقة هي عبارة عن تطريز قامت به سيدات في ريف حلب، وبإمكانك أيضاً العثور على فستان أدخلت إليه في بعض التفاصيل شيئاً من التراث.
محل صغير يتحول لمعرض كبير
في أواخر تسعينيات القرن الفائت وبداية الألفية، افتتحت محلاً صغيراً لها، بالقرب من المسجد الأموي. تتحدث بحب موضحة أن هذه الرقعة الصغيرة، ورغم بساطتها، جذبت الكثير من السيدات الهامات، ومن ثم توسع مشروعها بالانتقال لمحلها الكبير الذي كان أشبه بالمعرض.
عرضت فيه كل الأفكار التي نجحت في ابتكارها وتحويلها لقطع فنية، حتى إن أحد الأعمال الدرامية صورت مشاهد كثير منه في محلها.
الحال اختلف بعد الحرب
تحنّ للأيام الماضية وتأسف لتفرق غالبية السيدات اللواتي عملن معها، فالحرب اندلعت في نسبة كبيرة من القرى التي عملت معها، وانتشر سكان هذه المناطق في مختلف بقاع الأرض.
كما أن إعادة إحياء المشروع باتت بالنسبة لها شبه مستحيل، بعدما سافرت ابنتاها اللتان شاركتاها في الماضي في عملها وساعدتا في وقوف "عنات" على رجليها.
اليوم تملأ هذه السيدة الألمانية ذات العينين الزرقاوين وقتها بإعداد قطع جديدة تبيعها في محلها الواقع في مدخل باب شرقي. توضح أنها أقامت دورتين في وقت سابق بدمشق بـ "غاليري مصطفى علي"، علّمت في إحداهما كيفية صناعة الدمى.
لكنها في الوقت الحالي لا تخطط لتنظيم دورات مشابهة، فهي تعمل على إنهاء بعض النشاطات المقرر تنفيذها في الأردن.
تختم حديثها بأنها حتى في أسوأ ظروف دمشق رفضت المغادرة والانتقال لمكان آخر. وتقول مبتسمة: "لو تأزمت الأوضاع بإمكاني الاختباء في قبو المنزل فهو آمن جداً"، وتشير بإصبعها لثقب على أحد الجدران، موضحة أنه بسبب شظية قذيفة سقطت بالقرب من منزلها.