من تجميل الموتى عند المصريين القدامى إلى تجميل الأنف في الهند.. كيف تغيَّرت معايير الجمال عبر التاريخ؟

عدد القراءات
2,830
عربي بوست
تم النشر: 2020/07/23 الساعة 15:21 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/07/23 الساعة 15:21 بتوقيت غرينتش

كان الهوس بالجمال إحدى ميزات الحضارات القديمة، وتذكر بعض المصادر التاريخية أن أول عملية تجميل قد أجراها الطبيب الهندي "سوشورتا" في القرن الثامن قبل الميلاد والذي اعتمد تقنية ترقيع الجلد في جراحات تجميل الأنف، كما عرف المصريون القدامى عمليات التجميل التي كانت تجرى على الموتى؛ وذلك لاعتقادهم بعقيدة البعث.

احتل الجسد مكانة مهمة في التاريخ الإنساني، فابتدع الأسلاف من أجل حمايته بعض الطقوس، ورغم تعالي بعض  الطروحات  المثالية الداعية إلى قهر الجسد وإعلاء مكانة الروح على حسابه ، فإن هذا لم يمنع من المضي قدماً في الاهتمام بالجسد ليصبح اليوم قيمة؛ بل يحدد مكانة صاحبه في المجتمع.

في أواخر القرن الثامن عشر، تحرر مفهوم الجمال من المنظور اللاهوتي  نحو المنظور الإنساني، فأصبح بإمكان الإنسان العادي  الحديث عن معايير الجمال والانجذاب الجسدي بعد أن كانت مقتصرة على الأمراء والملوك، في هذا السياق يتحدث جورج  فيغاريلو بكتابه "تاريخ الجمال، الجسد والتزيين من عصر النهضة الأوروبية إلى أيامنا"، الصادر سنة 2005: "تراكمت منذ نهاية القرن الخامس عشر، لوحات نساء تم تصويرهن لا لجمالهن؛ بل لنفوذهن ووضعهن الاجتماعي" (ص 34).

لقد كان رسم اللوحات في القرون السابقة مقتصراً على النخب الحاكمة دون من سواها، وتقديم نموذج واحد للجمال. ومع حلول نهاية القرن الثامن عشر، يمكننا الحديث عن تحرير مفهوم الجمال الذي لم يعد يقتصر على نموذج واحد، كما شهد القرن الثامن عشر انصراف الناس إلى تصفيف الشعر بما يلائم الشكل الخاص للرأس، إننا نتحدث هنا عن وعي الناس بحاجتهم إلى التجميل والظهور في أبهى حُللهم.

تطوَّر الوعي البشري بالحاجة إلى التجميل كضرورة مُلحة؛ لمواكبة عصرهم وإثبات وجودهم، ومع ظهور المرايا الطويلة كقطعة مهمة من أثاث البيت لدى الطبقة البورجوازية، اهتمت النساء والرجال على حد سواء في أوروبا، بتفاصيل أجسادهم، كما صدرت المجلات المهتمة بالجمال في نهاية القرن  التاسع عشر والتي أرفقت في صور أعدادها صوراً لنساء نحيفات، وهو ما جعل نسبة مهمة من النساء يقبلن على تنحيف أجسادهن، لا سيما القسم السفلي، علماً أن الاهتمام بتفاصيل الجزء السفلي لم يكن رائجاً قبل نهاية القرن التاسع عشر؛ وذلك للاهتمام بتفاصيل الجزء العلوي.

أصبحت  الرشاقة وتجنب البدانة من معايير الجمال في القرن التاسع عشر، وهو الأمر الذي نشطت من أجله شركات قدمت خدمات تجميلية، بدأت من صنع الأقراص المُنحِّفة وصولاً إلى تمارين التدليك، وشهدت منتجات التجميل والعطورات والملابس قفزة نوعية في أرقام المبيعات.

اقتصرت نجاعة التجميل، من فكرة إلى واقع في القرن التاسع عشر، على الطبقة البورجوازية، في هذا السياق نورد هذا المقطع من كتاب "تاريخ الجمال": ".. ويجب القول إن المرآة الثلاثية القطع كانت تباع بـ650 فرنكاً، علماً أن راتب عامل نسيج في مكتب لم يتجاوز 90 فرنكاً… لم تكن أجساد المحرومين المدقعين تراقب إلا من زاوية الجدوى، أي زاوية الكد والشغل، صحيح أنها تستطيع أن تتزين ولكنها لم تتمكن من التمعن بشكلها ملياً" (ص 233). يمكننا القول إن الطبقة البوجوازية  قد خلقت معايير الجمال وكانت المنتفعة الأولى بتحقيقها، فيما كانت الطبقة المتوسطة قلَّدتها دون تحقيق نتيجة مبهرة؛ وذلك لغلاء الأدوات التجميلية، فيما حُرمت منها الطبقات الفقيرة والدنيا التي استثناها الجمال.

مع بداية القرن العشرين انتشر فن التجميل بصفة عامة، خاصة مع دخول الكهرباء إلى البيوت، فانتشرت الأجهزة المنزلية للاستخدام الشخصي من أجل التنحيف وترميم الجسد ومعالجته، علماً أننا نتحدث إلى حد هذه اللحظة، عن التجميل الذاتي دون تدخُّل جراحي.

انتشر فن السينما في القرن العشرين، وأصبح تقليد النجوم أمراً عادياً لدى العامة، لقد أصبح الجمال متاحاً للجميع؛ بل أصبح أمراً مُلحاً، فكانت الشقراء آنذاك رمز الجمال الأرستقراطي، علماً أن نجمات السينما قد تحولن جميعن إلى شقراوات، فأصبح صبغ الشعر إلى الأشقر موضة دارجة أقبلت عليها النساء في القرن العشرين؛ لإثبات وجودهن وتعزيز ثقتهن بأنفسهن.

كما تم تحديد ملامح الجسد الأنثوي "حاجبان مرسومان، جسد متموج، قوام رشيق، نهود فاتنة وبارزة، وشعر أشقر منساب"، لتصبح بذلك النجمة السينمائية رسول الجمال؛ بل رمز الجاذبية الجنسية، وسنستحضر هنا بريجيت باردو وصوفي لوران ومارلين مونرو نجمات أصبحن رمز الجمال على الإطلاق في ذلك العصر.

لقد أصبحت النجمة السينمائية في القرن العشرين تشكل مرجعية الجمال في صفوف النساء اللواتي أصابهن هوس تقليدها والتشبه بها في المظهر والإغراء،  فأقبلن على الحِميات الغذائية وتمارين التدليك المنزلية وصبغ شعورهن؛ لعلهن يصلن إلى درجة الجمال لدى هؤلاء النجمات.

مع حلول الحرب العالمية الأولى تمت العودة إلى العمليات التجميلية، وإعادة اختراعها منذ القرن الثامن قبل الميلاد من طرف الطبيب الهندي "سوشورتا"؛  وذلك من أجل معالجة وترميم التشوهات التي لحقت بضحايا الحرب، ومن أشهر  عمليات التجميل عمليات الطبيب النيوزيلندي "هارولد غيليز" (1882-1960)، الذي لُقب بأبي طب التجميل، وقد استكشف غيليز طرق ترميم الأجزاء المشوهة من الوجوه المتضررة من انفجارات الحرب العالمية الأولى، ومن أشهر العمليات التي أجراها العملية التي أجراها للطيار "وولتر إرنيست يو" الذي تحطَّم فكّاه السفلي والعلوي.

إننا هنا نتحدث عن العودة إلى عمليات التجميل من أجل إصلاح تشوهات الحروب وليس من أجل تقليد نجمات السينما، فكيف خرجت عمليات التجميل عن هدفها الأول لتصبح بذلك متاحة للأصحاء الذين يرغبون في تغيير ملامحهم أو تنحيف أجسادهم.. وكيف انقلبت الجراحة التجميلية من هدفها الأول "التصحيح" إلى تحقيق مبدأ النهوض بالذات؟

صحيح أن العصر الحالي لم يخلق نموذجاً واحداً للجمال؛ بل نماذج مختلفة، ولكن هذا لم يحرر النساء والرجال على حد سواء، لقد أصبح الهوس بالممارسات التجميلية مضاعفاً؛ وذلك لوفرة النماذج. لقد استثمر الفرد في الهوية الجسدية بِحرية تامة، يبدو هذا في الظاهر ولكن الحقيقة أن هذا العصر تحوَّل إلى عصر استهلاكي، فأصبح الهوس بالتجميل أولوية قصوى للفرد المفرط في ثقته انطلاقاً من جسده، مُطبِّقاً المقولة التي اشتهرت في 1960 والتي تقول: "إن الجسد يعبر عن الشخص على أحسن وجه".

شهدت كل المجتمعات طفرة هائلة في مجال الممارسات التجميلية ولم تقتصر على مجتمع دون غيره، كل مجتمع له أيقوناته ومعاييره النسبية في الجمال، ولكل عرقٍ مرجعيته وأيقوناته في الجمال، هيفاء وهبي في العرب، وجينيفر لوبيز مرجعية الجمال الأمريكي واللاتيني، وسريديفي كابور في الهند وغيرهن، ولكل صنفٍ جمهوره ومعجبيه.

في ظل الهوس بالتجميل وقيمة الجمال برزت دول اشتهرت بعمليات التجميل، في أوروبا وأمريكا، وبالشرق الأوسط تنافست دول مثل لبنان وتركيا وتونس ومصر، وتحقق عمليات التجميل عائدات ضخمة، بل تحولت إلى سياحة استشفائية، هناك عروض تحتوي على الإقامة إلى جانب عمليات التجميل، وتحول الأطباء في هذا الاختصاص إلى نجوم ينافسون نجوم الفن والرياضة.

لنطرح هذا السؤال: هل الالتجاء إلى التجميل أمر خطير ويشكل قلة ثقة في صفوف النساء والرجال؟

تنوعت دوافع اللجوء إلى التجميل، كل له دوافعه الخاصة، ولكن تتفق النسبة الغالبة على أن هذا النوع يصحح الجسد والثقة بالنفس في آن واحد، لقد تحولت الجراحة التجميلية إلى ممارسة جماهيرية لا تحتكرها فئة دون أخرى أو طبقة دون طبقة، وكما يرسم الرسام وجوه لوحته تحوَّل الجراح إلى فنان تقيده رغبات الزبون في تحديد التقاطيع أو التفاصيل التي يرغب فيها.

إننا لا نتهم النساء ولا الرجال الذين يتجهون إلى هذا النوع من العمليات، بانعدام الثقة بالنفس ونحن في عصر يعيش المشهدية الجسدية في أبرز تجلياتها، لقد تحوَّل الجسد إلى شخصية الفرد، وهو ما شكَّل ظاهرة في حد ذاتها.

لا يمكن الجزم بأن الفتيات والنساء يرغبن في تفاصيل نجمة بعينها بقدر ما ترغب في أن تكون هي كما تحلم، هي نفسها المتخيلة والقابلة للتحقيق، يبدو الأمر فلسفياً ولكنَّ مشرط الجراحة يحقق رغبة الفرد في الشعور بذاته وتحقيق السعادة في جسده المتخيل الذي تحقق بعد الجراحة.

لقد أصبح كل واحد فينا يبحث عن حالته الخاصة دون تقليد شخص ما، عكس سنوات القرن العشرين الذي تشابهت فيه جميع النساء، اليوم نساء ممتلئات نوعاً ما وأخريات نحيفات، سمراوات وشقراوات، كلهن جميلات.. لقد انفرطت معايير الجمال ولم تصبح واحدة، صحيح أنها ما زالت بأيدي شركات التجميل ولكن رغبة الفرد في الجمال وتحقيق منسوب مهم من الثقة قد تجاوزت مقولات الاستعباد الرأسمالي للجسد، الجميع يرغب في أن يكون جميلاً والجميع مستعد للتضحية لتحقيق حلمه.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
خولة الفرشيشي
كاتبة تونسية
خولة الفرشيشي باحثة جامعية في علوم التراث، لها كتاب حول ثقافة الجسد، تنشط وتكتب حول قضايا المرأة والشباب في تونس.
تحميل المزيد