تزامن فطام ابنتي الصغرى مع بداية أزمة كورونا والمكوث معظم الوقت في المنزل فلا مغادرة إلا للضرورة، وبات الترفيه الخارجي بكل أشكاله ممنوعاً.
على إثر ذلك، تحولنا جميعاً إلى كائنات بيتوتية بغير إرادتنا، ننهي واجباتنا المنزلية، ويصبح الفراش صديقاً لنا، والكنبة لا نفارقها وأبصارنا تطالع التلفزيون ليل نهار، فتارة نتابع الأخبار والمستجدات المتعلقة بكورونا، أو نشاهد الأفلام والمسلسلات المناسبة للأطفال.
وصار الريموت ملاصقاً لأيادينا جميعاً، وأصبحت العبارات الشائع تداولها بيننا: "فين الريموت"، "الوقت خلص"، "شوية هكمل الحلقة دي"، وزادت المشاجرات بين الصغيرتين بشكل واضح وبصورة مزعجة.
التليفزيون له ما له وعليه ما عليه فبضغطات بسيطة من أيدينا على أزراره الصغيرة ندخل في عالم يكاد لا ينتهي من القنوات والتطبيقات والبرامج الهادفة والتافهة والمسلية كذلك.
تستيقظ الصغيرة سلسبيل ولا تعيرنا أي اهتمام، فهناك ما هو أهم من الأحضان والقبلات والضحك بالنسبة إليها، إنه "الززيون" كما تسميه أو تطلق عليه بحروفها الصغيرة العبثية الجميلة.
تتفاقم الأمور أكثر؛ فلم يعد اقتراب موعد النوم رادعاً لإيقاف التلفزيون، وبات السهر سمتاً رئيسياً في حياتنا، وأصبحت شهية تناول وجبات الطعام ضعيفة جداً، وضعف انتباه الفتاتين وتشتت تركيزهما كثيراً.
مكالمات العائلة والأقارب لم تعد مبهجة لهما، تستجيبان متضجرتين بعد إلحاح شديد، فهناك ما هو أهم إنه التلفزيون، تتركانه لتلقيا كلمات سريعة مقتضبة وتسارعا بالعودة مجدداً إلى الشاشة البراقة.
أخذنا قراراً قبل بداية شهر رمضان الكريم بإخفاء التلفزيون والاستغناء عنه عقب مشاجرة كبيرة بين الصغيرتين حول أيهما الأحق بجهاز التحكم (الريموت) من الأخرى، لم تكن هذه المشاجرة الأولى بل سبقتها مشاجرات أخرى، ولكنها الأكثر حدة.
القرار المفاجئ كانت له تبعات، بتنا نتعامل مع مدمنين يبحثون عن جرعات بعيدة المنال ولا يستطيعون الوصول إليها.
تحايلت الفتاة الكبرى سندس بالمساومات والأسئلة التي من عينة "ماذا أفعل حتى يعود التلفاز؟"، أو "لو فعلت كذا هل سيعود التلفاز؟"، أو "كم كتاباً أقرأ ليعود التلفزيون؟".
أما الصغرى فرفعت شعار "خدوهم بالصوت"، وأصبح صوتها الأعلى في المنزل احتجاجاً على ما حدث، لقد سلبناها حقاً عظيماً من حقوقها في الحياة! وكلما رأت "الريموت" كانت تحاول معه كثيراً عله يساعدها في عودة التلفزيون إلى مكانه مرة أخرى.
بعد فترة من الاحتجاجات غير المجدية بالنسبة لنا، تعاملت الطفلتان مع الأمر بلا مبالاة، ولاحظت أن تركيزهما عموماً بدأ يزداد، وانضبطت مواعيد النوم والاستيقاظ، وتوقف النوم المتقطع، وشعرنا جميعا بالهدوء وراحة البال مقارنة بذي قبل.
ولكن مع اقتراب أيام العيد والفرحة تناقشت وزوجي في فكرة إعادة التلفزيون إلى مكانه مرة أخرى، فلست مع الحرمان التام، ولكن مع وضع شروط وقوانين لا يحيد عنها أحد من أفراد أسرتنا كبيراً كان أو صغيراً.
خصصنا للتلفزيون وقتاً محدداً لا يزيد على ساعة واحدة، وأن تكون في أول النهار لا آخره، وبعد انتهاء الواجبات اليومية، وأن يغلق تماماً قبل النوم بثلاث ساعات على الأقل.
في بداية الأمر لم نلحظ اهتماماً كبيراً به فلم يأبه الأطفال لوجوده كما في السابق، فقد تزامنت عودته مع وجود ألعاب العيد الجديدة التي شغلتهم عنه قليلاً، كما أن سندس أدركت أن فترة المنع قابلة للتكرار مرة أخرى إذا تفاقم الأمر وخرج عن السيطرة.
أما بالنسبة لسلسبيل الصغيرة فالصورة لم تكن كاملة وواضحة كما أختها، وبالتالي يقع علينا دور كبير في تشتيتها وإلهائها بعيداً عن الشاشات قدر الإمكان.
كثفنا معها محاولات اللعب الجماعي معها بمشاركة أختها ووالدها أو السماح لها بجمع الخضراوات والحبوب وتعبئتها مرة أخرى بعد أن لاحظت اهتمامها بالأمر.
بدا الأمر في بعض الأحيان كما لو كنا في منافسة مع التلفزيون، أن نسرق وجدان أطفالنا ولحظات المتعة معهم من تلك الشاشة التي تجمدهم أمامها.
منافستنا مع التلفزيون والآي باد دفعتنا إلى آفاق جديدة، تعليم الطبخ للكبيرة التي أتمت تواً السابعة من عمرها، وتعليم الغناء بحروف متعثرة للصغيرة التي أتمت بالكاد عاماً ونصف العام.
لا يمكن القول إن الحرب قد انتهت، أو إن الأمور لم تعد قابلة للخروج عن السيطرة، ولكنه على الأقل استعدنا التوازن الطبيعي، واغتنمنا لحظات جميلة من الانتصار المستحق، لحظات تجعلنا مستعدين لخوض المزيد من المنافسة.
رجاء.. لا تتخلوا عن دوركم، أو تستسلموا في وسط المعركة أو تتنازلوا عن السيطرة على الأمور، وحاولوا خلق بيئة متوازنة تجمع بين الحنان والحزم، بعيداً كل البعد عن التسيب أو التشدد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.