كشكل من أشكال "التكرار القهري" يقوم الاحتلال الإسرائيلي، منذ عدوانه على غزة في السابع من أكتوبر 2023، بقتل المدنيين والأطفال، واستغلال الأسرى كعيّنات تجارب أدوية، ودفنهم في مقابر جماعية.. كل هذه الانتهاكات ضد الشعب الفلسطيني كانت قد مُورست من قِبل النازيين في حق الشعب اليهودي خلال الهولوكوست منذ عام 1933 وحتى 1945، والتي قُتِل فيها ما يقرب من ستة ملايين يهودي أوروبي.
والتكرار القهري هو ميل الشخص لتكرار الخبرات والتجارب التي تتسبب في شعوره بالألم كتعبير عن الحاجة اللاواعية لإعادة عيش الصدمات المبكرة.
ما أسباب التكرار القهري؟
وفق ما ذكره الدكتور محمد طه في كتابه "الخروج عن النص"، يرتكز التحليل النفسي للتكرار القهري على أربعة أسباب:
أشخاص جدد بأدوار قديمة
عندما يمرّ الشخص بظروف صعبة وأحداث قاسية في الماضي لم يتقبّل نهايتها بما يشمل ذلك من مشاهد صعبة ومواقف غير محلولة داخله.. تتولّد لديه رغبة تكرار قهري في العودة إلى الأزمان والأماكن والمراحل السابقة ليعيشها كما يجب أن يكون، فيشكّل في ذهنه سيناريو الذكريات القديمة بكل تفاصيلها وأدوارها وظروفها حتى ينهيها نهاية مختلفة عن النهاية السابقة.
يقوم في هذه الحالة بتلبيس الأدوار القديمة لشخصيات جديدة، ثمّ يحل معهم ما لم يقدر على حله سابقاً.. لتتحقق النهاية المرجوّة التي ترضيه وتسعده وتنسيه النهاية المأساوية السابقة.
أنا صاحب الموقف
الحالة الثانية التي تحدّث عنها الدكتور محمد طه، هي التي يكون فيها الشخص قد عاش تجربة كان فيها شخصية ضعيفة ومضطرة وعديمة الحيلة.. وهو ما جعله يشعر بالانهزام والانكسار تجاه نفسه، وأنّه كان مرغماً على النهاية التي عاشها.
يعتقد الشخص في هذه الحالة أنّ التكرار القهري لتفاصيل الأحداث التي عاشها بكامل حذافيرها وتفاصيلها وبإرادته ووعيه الكامل سيخلق من شخصيته نسخة جديدة تتفوّق على شخصيته القديمة، وسيثبت لنفسه أنّه استطاع ولو بشكل زائف السيطرة على مجرى الأحداث وتوجيهها لصالحه.
أنا الجاني ولست الضحيّة
السبب الثالث هو تعرض الشخص لصدمة قويّة لم يتقبل فيها أنّه كان ضحيّة لأشخاص آخرين، فيعيد شريط حياته للوراء، فيكرر قهرياً نفس التجربة، ولكن هذه المرة بدور المنتقم الشرس الذي يريد الأخذ بثأره.
أشعر بالذنب من نفسي
كسببٍ أخير للتكرار القهري، يذكر د. محمد طه أنّ بعض الأشخاص الذين تأذوا في حياتهم من قِبل أشخاص آخرين يكون لهم شعور ملازم بالذنب؛ لعدم تمكنهم من الدفاع عن أنفسهم في ذلك الوقت، أو لتحميلهم المسؤولية لأنفسهم فيما حدث؛ لاعتقادهم أنّهم من سمحوا للطرف الآخر بأذيّتهم، وهو ما ينطبق على الفتيات اللاتي يعشن في مجتمعات متشدّدة وتعرضن للتحرش.. يؤدي ذلك بالشخص إلى التشفي من نفسه، فيعاقبها بتكرار نفس الأحداث.. ويتلذذ بتعذيبها دون شفقة.
ينطبق هذا على بعض العلاقات البشرية المعقدة، كتلك التي تختار فيها الفتاة زوجاً أنانياً يتمادى في إيذائها نفسياً وعاطفياً وجسدياً، تتمسّك به رغم كل الإساءة التي يسببها لها.. فضلا عن العلاقات الأخرى المماثلة، سواء في الحياة العمليّة أو الصداقات أو الزمالات يكون فيها صاحبها متشبثاً بالألم بل باحثاً عنه.
ما علامات التكرار القهري؟
بحسب موقع psych central، تعرف أنك مصاب بالتكرار القهري عندما يكون لديك أحد التصرفات التالية أو أكثر:
– الانخراط في علاقات متعددة مسيئة أو سامة خلال مرحلة البلوغ.
-الانخراط في علاقات مع أشخاص لا يبادلونك المشاعر عاطفياً.
– تكرار نفس السلوكات الضارة دون تغيير أي شيء.
نظريات تفسّر التكرار القهري
عرض الخبراء عدة نظريات قد تفسر هذا النوع من السلوك منها:
نظرية فرويد
في بداية الأمر لاحظ فرويد كيف "لا يتذكر مريضه أي شيء مما تسبّب في معاناته وألمه، فهو يتصرف ويعيد الأحداث دون علمٍ واعٍ منه أنه يكررها".
ثمّ استكشف فرويد مفهوم "التكرار القهري" بشكل أوسع، في عام 1920 تحدث عن جوانب من سلوك التكرار القهري في مقالة بعنوان "ما وراء المتعة"، أهمّها الطريقة التي تتميز بها "الأحلام التي يعيد فيها المريض في ذهنه مراراً الحادثة المؤلمة، بدلاً من استرجاعه لصورٍ من ماضيه الصحي على سبيل المثال".
كما يقول فرويد فإن بعض الأشخاص غير القادرين على التحدث عن صدمة سابقة أو تذكرها، يعبّرون عنها من خلال الأفعال بدلاً من الكلمات "فأولئك الذين لا يتذكرون الصدمات الماضية قد يكون لديهم الدافع لتكرار التجربة المكبوتة في حياتهم الحالية".
تحقيق الذات
قد يعني تحقيق الذات في هذا السياق أنّ الشخص الذي تعرض لتجارب سابقة مؤلمة يعيد تمثيل الصدمة التي تعرض لها كوسيلة للتأقلم والشفاء. المشكلة في هذا الخيار هو أن إعادة تمثيل الأحداث من قِبل المريض نادراً ما تؤدي إلى تحقيق الذات دون علاج. وبدلاً من ذلك، غالباً ما يعيش الأشخاص المصابون بصدمات نفسية حياة صادمة أكثر من الأولى.
نظرية فرط الإثارة الجنسية
ربط العلماء فرط الإثارة الجنسية كاضطراب عصبي يؤثر على الجهاز العصبي المركزي بأكمله ما يؤدي إلى تهيج زائد في الأعصاب، وخاصة الموجودة في الأعضاء التناسلية، بأنّ له دوراً في التكرار القهري؛ حيث إنّ هذا النوع من الاستجابة يمكن أن يعيق قدرة الشخص على إصدار أحكام عقلانية، كما يعتبر هذا النوع من الاضطراب من بين مسببات الأمراض النفسية الأخرى، في مقدمتها الاكتئاب واضطراب ثنائي القطب.
ما علاج التكرار القهري؟
العلاج النفسي للتكرار القهري
جاء في موقع simply psychology أن العلاج النفسي للتكرار القهري يمكن أن يكون فعالاً. وهو يرتكز على استكشاف العلاقات والتجارب المؤلمة السابقة للشخص لتحديد كيف ولماذا يعيد تمثيل الصدمة، كما يساعد ذلك الشخص على فهم القوى والغرائز اللاواعية التي تحركه.
بمجرد أن يفهم الفرد تأثير ماضيه على حاضره، تتاح له الفرصة لعلاج تجربته المؤلمة. تصبح مشاعره أقل حدة وأحكامه تجاه نفسه والمحيطين به أكثر إنصافاً.
علاجات نفسية أخرى
قد لا يرغب بعض الأشخاص في الخضوع للتحليل النفسي المتعمق أو العلاج النفسي الديناميكي. بالنسبة لهؤلاء الأفراد، قد تكون الأنواع الأخرى من العلاج بالكلام، مثل العلاج السلوكي المعرفي (CBT)، نهجاً أكثر ملاءمة.
العلاجات الجماعية
بالإضافة إلى العلاج الفردي، يمكن استخدام الجلسات الجماعية لتوليد مشاعر القبول تجاه أحداث الماضي وتجربة الدعم الاجتماعي، خاصة من الآخرين الذين ربما مروا بصدمات مماثلة.
العلاجات النفسية السلوكية
العلاج السلوكي المعرفي (CBT)، والعلاج السلوكي الجدلي (DBT)، والعلاج السلوكي الانفعالي العقلاني (REBT) هي أيضاً أنواع شائعة من العلاج النفسي والتي تعتبر فعالة في إعادة تشكيل أنماط التفكير التي تؤدي إلى سلوك غير صحي.
حيث تركز هذه الأنواع من العلاجات على إدراك أي تشوهات معرفية، وسبب الحديث السلبي مع الذات، والسلوكيات غير المفيدة التي تحدث نتيجة لذلك.