في الوقت الذي لا يزال فيه العالم يكافح فيروس كورونا، يبدو أنّ بعض الأمراض القديمة انتهزت الفرصة لتهاجم البشر مجدداً، مثل جدري القرود، وهربس القرود، وحمى الضنك، وإنفلونزا الطيور، وآخرها هو الطاعون الدبلي، الملقب بالموت الأسود، والذي عانى البشر من ويلاته في العصور الوسطى.
ما هو الطاعون الدبلي؟ كيف انتشر قديماً؟ وما أسبابه وأعراضه؟
ما هو الموت الأسود (الطاعون الدبلي) وما أسبابه؟
سجّلت منطقة نينجشيا بشمال غربي الصين، الثلاثاء 19 يوليو/تموز 2022، حالة إصابة بالطاعون الدبلي في مدينة ينتشوان، وكان المريض قد عاد إلى ينتشوان قادماً من منغوليا الداخلية ذاتية الحكم في شمالي الصين، وفقاً لما ذكرته وكالة شينخوا الصينيّة.
ووفقاً لما ذكرته منظمة الصحّة العالميّة، فإنّ الطاعون الدبلي هو مرض مُعد تسببه بكتيريا حيوانية المنشأ تدعى اليرسنية الطاعونية، وتوجد عادة لدى صغار الثدييات.
وهو ينجم عن لدغة برغوث مصاب بعدوى المرض، فتخترق عصيات اليرسنية الطاعونية المسببة للطاعون الجسم بعد اللدغة، وتنتقل عبر الجهاز اللمفي، وتصل إلى أقرب عقدة لمفية وتبدأ بالتكاثر فيها.
ومن ثم تلتهب العقدة اللمفية وتصبح متوترة ومؤلمة وتُسمى "الدبل"، ويمكن أن تتحول العقد اللمفية الملتهبة في مراحل العدوى المتقدمة إلى تقرحات مليئة بالصديد.
أعراض الطاعون الدبلي
أما أعراض الطاعون الدبلي فتشمل وفقاً لما ذكره مركز Cleveland Clinic الطبي الأمريكي:
- ارتفاع مفاجئ في درجة الحرارة.
- الشعور بالقشعريرة.
- آلام في مناطق البطن والذراعين والساقين.
- الصداع.
- آلام في العضلات وإجهاد.
- كتل كبيرة ومتورمة في الغدد الليمفاوية (الدبلات) يمكن أن تكون كبيرة مثل حجم بيضة دجاجة ويتسرب منها القيح.
كما قد تشمل أعراض الطاعون الدبلي إنتان الدم الأنسجة السوداء من الغرغرينا، وغالباً ما تشمل أصابع اليدين أو القدمين، ما يؤدي إلى موتها، وهو السبب الذي جعل القدماء يطلقون اسم الموت الأسود على الطاعون.
كما قد يعاني الأشخاص المصابون بالطاعون الرئوي أيضاً من صعوبة إضافية في التنفس وقد يسعلون الدم، في بعض الأحيان تظهر أعراض مثل الغثيان أو القيء.
كيف يتم علاج الطاعون الدبلي؟
يمكن علاج الطاعون الدبلي وعلاجه بالمضادات الحيوية، فإذا تم تشخيصك بالطاعون الدبلي فسيتم إدخالك إلى المستشفى وإعطاؤك المضادات الحيوية، وفي بعض الحالات قد يتم وضعك في وحدة عزل.
فيما تشمل المضادات الحيوية التي تعالج الطاعون الدبلي ما يلي:
- سيبروفلوكساسين وليفوفلوكساسين وموكسيفلوكساسين.
- الجنتاميسين.
- دوكسيسيكلين.
ماذا يحدث إذا لم يتم علاج الطاعون الدبلي؟
يمكن أن يكون الطاعون الدبلي مميتاً إذا لم يتم علاجه، ويمكن أن يسبب عدوى في جميع أنحاء الجسم (طاعون إنتان الدم)، و/ أو يصيب رئتيك (الطاعون الرئوي).
بدون علاج، طاعون إنتان الدم والطاعون الرئوي كلاهما قاتل.
مضاعفات الطاعون الدبلي
أما عن مضاعفات الموت الأسود فتشمل وفقاً لما ذكره موقع Mayo Clinic الطبي الأمريكي:
الموت: ينجو معظم الأشخاص الذين يتلقون العلاج الفوري بالمضادات الحيوية من الطاعون الدبلي، أما الطاعون غير المعالج فله معدل وفيات مرتفع.
الغرغرينا: يمكن أن تؤدي الجلطات الدموية في الأوعية الدموية الدقيقة في أصابع اليدين والقدمين إلى تعطيل تدفق الدم وموت هذا النسيج، وقد تحتاج إلى إزالة (بتر) أجزاء أصابع يديك وقدميك التي ماتت.
التهاب السحايا: نادراً ما يتسبب الطاعون في التهاب الأغشية المحيطة بالدماغ والحبل الشوكي (التهاب السحايا).
الوقاية من الطاعون الدبلي
يمكنك اتخاذ الخطوات التالية للوقاية من الطاعون الدبلي:
اجعل منزلك وفناءك غير مضيافين للقوارض (الفئران والجرذان أو الحيوانات البرية الأخرى، ولا تترك لهم أماكن للاختباء أو طعاماً لهم ليأكلوه.
استخدم منتجات مكافحة البراغيث لحيواناتك الأليفة، واصطحبها إلى الطبيب البيطري بشكل فوري.
لا تدع الحيوانات الأليفة التي تتجول تنام بحرية في سريرك.
ارتد ملابس واقية- خاصة القفازات- إذا كنت تتعامل مع حيوانات ميتة.
قصّة انتشار الموت الأسود في العصور الوسطى
على مدار عدّة سنوات اجتاح وباء الطاعون قارة أوروبا بين 1347 و1352 حاصداً أرواح نحو ثلث سكان القارة، ورغم اعتباره دائماً وباءً انتشر في أوروبا، فإنه في الوقت ذاته انتشر في آسيا والعالم العربي.
ويُقال إنه قتل قرابة خُمس عدد سكان لندن خلال فترة "الطاعون العظيم" في عام 1665، بينما مات أكثر 12 مليون شخص في عمليات انتشار للمرض في الصين والهند خلال القرن التاسع عشر.
ولسوء الحظ لم يوثّق مسار الوباء في آسيا تماماً كما هو الحال بالنسبة لأوروبا، ومع ذلك يظهر الموت الأسود في سجلات غالبية دول آسيا كونه نشر الموت والدمار.
خلال العصور الوسطى لم يكن يُستخدم التعريف العلمي الذي نستخدمه حالياً وهو الطاعون، فكان رواة دنماركيون وسويديون أول مَن استخدم مصطلح الموت الأسود أو الموت العظيم، وكانت هذه التسمية مجازية للتأكيد على الرعب والدمار الذي تسبب به هذا الوباء، وفق ما ذكره موقع Thought co الأمريكي.
ويعتقد العلماء أن بداية وباء الطاعون كانت من شمال غرب الصين، بينما يعتقد آخرون أنه من جنوب غرب الصين أو سهول آسيا الوسطى، تقريباً سنة 1331.
وتسبب المرض بقتل أكثر من 90% من سكان مقاطعة خبي، وبلغت الوفيات أكثر من 5 ملايين شخص.
ويقول العلماء إنه حتى عام 1200 كان عدد سكان الصين أكثر من 120 مليون نسمة، لكن تعداد عام 1393 كان فقط 65 مليون شخص.
ويرجع سبب موت هذا العدد الكبير إلى المجاعات والاضطرابات التي سببها انتقال الحكم من يوان إلى مينغ، ولكن السبب الأساسي كان هو الطاعون.
يعتبر الموت الأسود سبباً في وفاة ما يقدر بنحو 75 إلى 200 مليون شخص في إفريقيا وآسيا وأوروبا في القرن الرابع عشر، وفقاً للمؤرخ الأمريكي المتخصص بالعصور الوسطى فيليب دايليدر.
كيف انتقل الموت الأسود إلى بقية دول آسيا؟
جميعنا نعرف أنّ الصين موجودة على الطرف الشرقي من طريق الحرير التجاري، وهذا الطريق هو السبب الرئيسي وراء انتقال المرض من الصين إلى بقية آسيا.
فقد ركب الموت الأسود الطرق التجارية غرباً وتوقف عند قوافل آسيا الوسطى ومراكز التجارة في الشرق الأوسط، ثم أصاب الناس في جميع أنحاء آسيا.
كما أكد أحد الباحثين أن نحو 300 قبيلة متنقلة على طريق الحرير توفوا جميعاً دون سبب واضح خلال تنقلهم الموسمي.
بينما ذكر الكاتب ابن الوردي -وهو كاتب سوري توفي في حلب سنة 1349 بسبب الطاعون- أن الموت الأسود جاء من أرض الظلام -كما أطلق عليها- أي من شرق آسيا، وأنها من هناك انتشرت إلى الهند وبحر قزوين وأرض الأوزبك (أوزباكستان) ومن ثم إلى بلاد فارس (إيران) والدول التي على البحر الأبيض المتوسط.
وصول الموت الأسود إلى الشرق الأوسط
صوَّر المؤرخون شدة فتك الموت الأسود الذي ضرب بلاد الشام، خاصة مدينة حلب، التي لم يعد سكانها يجدون مكاناً لغسل الموتى بسبب كثرتهم.
وذكر ابن بطوطة في رحلته أنّ الموت الأسود وصل بلاد الشام تقريباً سنة 1349، وعندما وصل كانت أعداد القتلى في القاهرة 24 ألفاً في اليوم، وفي حلب ودمشق وحدهما يومياً نحو 4000 شخص، وأن الدمشقيين كانوا لا يغادرون الجوامع وباتوا يصلون ويصومون ويقرأون القرآن طيلة الأوقات.
وقد أسهب المؤرخون في وصف ما حدث حينها، فقال تقي الدين المقريزي إن أول ظهور للطاعون في بلاد الشام كان في حلب ومنها انتقل إلى بقية بلاد الشام.
في حين قال ابن خلدون: "هذا ما نزل بالعمران شرقاً وغرباً في منتصف هذه المئة الثامنة من الطاعون الجارف الذي تحيف الأمم، وذهب بأهل الجيل، وطوى كثيراً من محاسن العمران ومحاها، وأوهن من سلطانه، وتداعت إلى التلاشي والاضمحلال أموالها".
بينما قال ابن الوردي وهو يصف هذا الوباء: "ثم غزا غزة، وهز عسقلان هزة، وعك إلى عكا، واستشهد بالقدس وزكى، فلحق من النهار بين الأقصى بقلب كالصخرة، ولولا فتح باب الرحمة لقامت القيامة في مرة، ثم طوى المراحل، ونوى أن يلحق الساحل، فصاد صيداً، وبغت بيروت كيداً".
في حين وصف شمس الدين السخاوي المرض بالخطاف، مؤكداً أن سكان دمشق هم مَن سمّوه بهذا الاسم لأنه يخطف الرجل والمرأة والطفل في يوم أو يومين أو ثلاثة.
وأخيراً، قد يبدو الموت الأسود وكأنه جزء من الماضي، لكنه لا يزال موجوداً اليوم في العالم، وأفضل طريقة لمنع الإصابة به هي تجنب البراغيث التي تعيش على القوارض مثل الجرذان والفئران والقطط والكلاب.