لم يكن المشي مجرد طريقة ينتقل بها الناس من مكانٍ لآخر، أو نشاطاً مقصوراً على الطرقات الجميلة وسط الغابة، فبالنسبة للعديد من الفلاسفة كان المشي عبارة عن طقس يساعدهم على الاتصال بأنفسهم للتمكن من الإبداع.
أهمية التأمل عند المشي
للراهب الفيتنامي الراحل ثيت نات هانه، الذي نشر فكرة التأمل بالغرب، فضلٌ لاعتبار المشي ممارسةً تأمليةً أساسية تساعد الناس على الاتصال بأنفاسهم، وأجسادهم، وحتى الأرض، حتى يصبحوا على وعيٍ بما سماه "الترابط بين كل الأشياء".
ووفقاً لموقع The Conversation الأسترالي، فقد كان ثيت نات هانه من أكثر قادة البوذية تأثيراً في العالم حين توفي في 22 يناير/كانون الثاني 2022، وقد ابتدع هذا المصطلح لوصف "ترابطنا العميق مع كل الأشياء الأخرى".
حيث أوضح: "تعتمد كل الأشياء في الكون على بعضها البعض من أجل الظهور، سواء النجوم، أو السحب، أو الأزهار، أو الأشجار، أو أنت وأنا".
كما كان الراهب الفيتنامي يُؤمن بأن الأرض مقدسة، ولهذا فإن كل خطوةٍ يخطوها المرء يجب أن تذكّره بهذا الرابط الروحاني في أثناء توحيدها لعقله وجسده معاً.
كما علّم الناس أن بيت المرء الحقيقي يكمُن في اللحظة الحالية من خلال الوعي بخطواته على الأرض، وجسده، وعقله، وبالتالي فإنّ التأمل أثناء المشي يُعيد مُمارِسه إلى هذه الأرضية الصلبة.
التأمل أثناء المشي عند الفلاسفة
صحيحٌ أن الراهب الفيتنامي ثيت نات هانه قدّم الكثير من أجل إيضاح فكرة أن التأمل عند المشي أمرٌ هام وعلينا جميعاً أن نقوم به، إلا أنّ هذا الطقس قديم جداً وكان ممارسة شائعة لدى العديد من الفلاسفة.
مثلاً، كان أرسطو مؤسس المدرسة المشائية للفلسفة من خلال 3 أنشطة على الإنسان القيام بها وهي:
1- التفكير
2- المشي
3- التحدث
وهو ما كان واضحاً في إحدى اللوحات التي أظهرت أرسطو وهو يتمشى رفقة أفلاطون وهما يتحدثان بينما يصطف على الجانبين طلابهما الذين يقومون بتدوين أفكارهما.
فيما يوضح موقع Medium الأمريكي أنّه بينما كان أرسطو يعلّم الطلاب أو يعقد اجتماعات مع فلاسفة آخرين، كان يسير دائماً تقريباً، لأن المشي يزيد من عملية التفكير الإبداعي.
أما الفيلسوف الدنماركي سورين كيركغور فقد كان يُشاهَد يومياً في شوارع كوبنهاغن المتعرجة، حتى إنه عندما كان يعمل فقط في أحد المكاتب كان يتعمد البقاء واقفاً، لأنه يعتقد أن الجلوس بلا حراك أمرٌ غير صحي.
أما لوكيوس سينيكا وهو أحد أشهر الرواقيين والفلاسفة الذين ساروا على كوكب الأرض والذي كان أيضاً أحد أغنى الرجال في الإمبراطورية الرومانية، فقد كان مثل كل الفلاسفة الآخرين الذين ذكرناهم، ولديه اقتباس شهير عن المشي وهو: "يجب أن نذهب للتنزه خارج الأبواب؛ حتى نتمكن من تقوية العقل وتنشيطه بسماء صافية ووفرة من الهواء النقي".
في حين كان فريدريك نيتشه يمشي وحده 8 ساعات في اليوم وهو حاملٌ لدفتر صغير يدون فيه ملاحظاته الصغيرة التي تأتيه خلال التأمل أثناء المشي.
كما شرع نيتشه بانتظام في القيام برحلات مفعمة بالحيوية إلى جبال الألب السويسرية، مقتنعاً بأن "كل الأفكار العظيمة يتم تصورها من خلال المشي".
أما جان جاك روسو فقد كان يمشي بدون رحمة، حيث كان يمشي لمسافة 30 كيلومتراً يومياً، حتى إنه في إحدى المرات مشي مسافة 480 كيلومتراً من جنيف إلى باريس.
في حين يشرح روسو بكتابه "اعترافات" أهمية المشي، من خلال واحدة من أشهر مقولاته: "لم يقدَّر لي قط أن أكون أكثر تفكيراً، وأكثر استمراءً لوجودي وحياتي، وأكثر قرباً من حقيقتي مما كنت في تلك الرحلات التي كنت أقوم بها سيراً على قدمي، ففي المشي شيء ينعش نشاطي ويسمو بأفكاري، وأنا لا أكاد أفكِّر عندما أكون ساكناً، لا بدَّ لجسمي من أن يكون في حركة حتى يتحرك عقلي".
فوائد المشي
إذا ما قمنا بالبحث عن فوائد المشي فإننا سنجد الكثير والكثير من المنافع الجسدية والذهنية، وليس غريباً أنّ يسميه العالم أبقراط أنه أفضل دواء للإنسان، لذلك سنقدم لك أبرز الفوائد التي يفيد بها المشي اليومي، حسب موقع Stuff النيوزيلندي.
تشير الإرشادات الجديدة لمنظمة الصحة العالمية حول تقليل مخاطر تدهور الصحة العقلية والخرف، والتي نُشرت في وقت مبكر من هذا العام، إلى أن المشي قد يكون أكثر فائدة في منع تدهور الصحة العقلية من تطبيقات تدريب العقل.
التدريبات، وضمنها المشي المعتاد، حسَّنت الوظائف المعرفية لدى البالغين المصابين وغير المصابين باختلال معرفي.
ويدافع بعض الخبراء عن أن هذا الأثر قد يكون بسبب أن المشي ينسق بين نصفي المخ وينظم الجهاز العصبي.
إلى جانب المساعدة على تحسين تدفق الدم (وضخ مزيد من المغذيات والأوكسجين إلى أعضائنا)، يزيد المشي من معدل ضربات القلب، وهو ما من شأنه تقوية قلوبنا ومساعدتنا على ضبط وزن أجسادنا (وهو عامل خطر للعديد من الأمراض المزمنة).
يقول إيمانويل ستاماتاكيس، أستاذ النشاط البدني ونمط الحياة وصحة السكان في جامعة سيدني: "يوفر المشي فرصة ممتازة لزيادة القوة بتكلفة منخفضة وسهولة شديدة، من خلال زيادة وتيرة المشي فحسب، وهو ما ارتبط بخفض خطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية بشكل حاد، خاصة عند من وصلت أعمارهم إلى 60 عاماً أو أكثر".
ويضيف: "تعد وتيرة 130 خطوة في الدقيقة تمريناً مكثفاً للبالغين، بينما يعد السير لـ100 خطوة في الدقيقة معتدلاً".
إلى جانب المساعدة في تخفيف التوتر البدني الناتج عن الضغط، تؤثر التدريبات، ومن بينها المشي، تأثيراً إيجابياً على الأجزاء المسؤولة عن تنظيم المزاج في المخ.
وقد وجد استعراض المؤلفات في هذا المجال أن المشي يساعد على تخفيف أعراض الاكتئاب، وتوصل بحث من جامعة دويك إلى أن التدريبات فعَّالة في تخفيف الاكتئاب بالدرجة نفسها بوصفها مضادات للاكتئاب، وأنها أقدر على تقليل خطر حدوث انتكاسة.
توصلت دراسة أجرتها جامعة هارفارد على 16 ألف امرأة مُسنة في العام 2019، إلى أن اللاتي مشين 4400 خطوة يومياً حظين بمعدل وفاة مبكر أقل كثيراً، مقارنةً بالنساء الخاملات، واستمرت هذه الفوائد في الارتفاع وصولاً إلى ما يقارب 7500 خطوة، وهي النقطة التي توقفت الفوائد فيها عن الارتفاع.