المضادات الحيوية هي أقوى أسلحة البشر ضد الأمراض في عصرنا الحديث تقريباً، وهي عامل مهم في تحسين نوعية الصحة العامة وإطالة معدلات الحياة حول العالم.
ومع ذلك، فإن الزمن يتغير، وخطر مقاومة المضادات الحيوية يحلِّق فوق رؤوسنا اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى؛ إذ كثيراً ما يتم عرض العدد المتزايد من الالتهابات البكتيرية التي تطور سلالات مقاومة للمضادات الحيوية في الأخبار، وهناك قلق من أننا نقف على حافة النهاية للمضادات الحيوية.
ولكن هل يمكننا أن نتخيل فعلاً كيف كانت الحياة ما قبل اكتشاف وتطوير المضادات الحيوية التي بدأت مع اكتشاف وتطوير البنسلين؟
كيف كانت الحياة قبل تطوير المضاد الحيوي؟
لطالما كانت العدوى سبباً في هلاك البشرية على مدار التاريخ.
وقبل ظهور المضادات الحيوية، كان أبسط الإصابات مثل الجروح والالتهابات قادرة على إماتة الإنسان. كما أن أي شكل من أشكال الجراحة كان محفوفاً بالمخاطر واحتمالية الوفاة في التعافي منها.
كما كانت الأمهات تموت، والأطفال حديثو الولادة كانوا معرضين لخطر العدوى والوفاة المباشرة بعد أيام من الإنجاب.
اليوم، أصبحت معدلات الوفيات أقل بحوالي 50 مرة مما كانت عليه في عشرينيات القرن الماضي. ففي القرن التاسع عشر تسبب مرض السل مثلاً في حوالي 25% من مجموع الوفيات حول العالم، بحسب موقع Past Medical History لتاريخ الطب والعقاقير.
وقد أدت التحسينات في تدابير الصرف الصحي والصحة العامة إلى خفض هذا الرقم بشكل كبير بحلول القرن العشرين، ولكن لم يكن هناك علاج حقيقي ما قبل المضادات الحيوية.
في الواقع، كان العلاج الوحيد لمرض السل في ذلك الوقت هو رحلة إلى الريف للحصول على بعض الهواء النقي.
تغير كل هذا في عام 1928، مع رحلة اكتشاف وتطوير أول مضاد حيوي على يد السير البريطاني وعالم الجراثيم ألكسندر فليمنغ، والخبراء من بعده.
اكتشاف المضاد الحيوي كان بمحض الصدفة
في عام 1928، كان عالم الجراثيم ألكساندر فليمنغ يعمل في قسم التلقيح في مستشفى سانت ماري البريطانية بالعاصمة لندن.
وعندما ذهب فليمنغ في إجازة صيفية في موطنه الأم باسكتلندا، عاد ليجد مختبره في لندن قد تطور فيه نوع من العفن في لوحة استنبات المكورات العنقودية التي تركها أسفل منظاره الطبي.
في البداية، اعتقد الطبيب أن هذه كانت مجرد تجربة فاسدة لتطوير البكتيريا، ولكن عند الفحص الدقيق، لاحظ أنه لا توجد بكتيريا تنمو بالقرب من العفن. حيث شكل القالب دائرة خالية من البكتيريا حول نفسه.
وبملاحظة فليمنغ أن العفن بدا وكأنه يمنع البكتيريا حوله من النمو والانتشار.
سرعان ما اكتشف بالتحليل الدقيق أن العفن ينتج مادة كيميائية للدفاع عن نفسه، يمكنها أن تقتل البكتيريا وتمنع امتدادها بطريقتها المعتادة.
وقد طلق الباحث على تلك المادة اسم البنسلين.
استقبال ضعيف وعدم اهتمام بالاكتشاف
نشر فليمنغ نتائجه وقدم اكتشافه إلى نادي البحوث الطبية البريطاني. ولدهشته، أظهر أقرانه القليل من الاهتمام بعمله.
وبحسب موقع Science Museum، لم يردع العديد من الكيميائيين، وكلهم خبراء بارزون في مجالاتهم، عن مساعدة العديد من الكيميائيين للمساعدة في تنقية البنسلين من العفن لكي يصبح قابلاً للاستهلاك البشري دون مخاطر. ولكن لم ينجح أي منها.
لاحقاً أعلن البروفيسور هارولد ريستريك، عالم الكيمياء الحيوية والخبير في المواد الفطرية التي أدرجها فليمنغ بتجربته، أن "إنتاج البنسلين للأغراض العلاجية يكاد يكون مستحيلاً".
في النهاية تخلّى فليمنغ شخصياً عن محاولات تنقية البنسلين بعد فشل متكرر.
بعد ما يقرب من 10 سنوات، وفي عام 1937، أثناء التحقيق في الكائنات الحية الدقيقة والمواد التي تنتجها، أسس العالمان البريطانيان هوارد فلوري وإرنست تشين، فريقاً من العلماء الذين تم تجميعهم للعمل بشكل مستقل وخاص على "مشروع البنسلين" فقط.
وقد أدت الاشتباكات الشخصية بين كبار أعضاء الفريق إلى جدالات محتدمة حول كيفية إجراء البحث. الخلافات المستمرة داخل المختبر، فضلاً عن التعقيدات والتحديات العلمية للمشروع، تعني أن الفريق كافح قليلاً لتنقية البنسلين من قالبه الأصلي.
إثبات كفاءة البنسلين ومواجهة معضلة الإنتاج
بعد ثلاث سنوات من التجربة والخطأ، نجحوا في تطوير طريقة يمكنها تنقية البنسلين من العفن فعلاً، ولكن بشكل غير فعال لكي يتم استخدامه في تصنيع البنسلين النقي.
لاحقاً حصل الفريق أخيراً على ما يكفي من البنسلين لبدء إجراء التجارب على الحيوانات. وفي عام 1940، تمت إصابة 8 من فئران التجارب ببكتيريا المكورات العقدية، وبالفعل نجت الفئران الأربعة التي تناولت البنسلين فقط، وتعافت من العدوى.
اكتسبت الورقة البحثية المنشورة بهذه النتائج التي تفصل التجربة اهتماماً فورياً وقبولاً واسعاً، لكن قدرة الفريق على إنتاج البنسلين كانت محدودة إلى حد كبير في تحقيق الإنتاج.
إذ إنه مطلوب جالون من مرق العفن لكي يتم إنتاج بضعة غرامات فقط من البنسلين. لذلك لجأ الفريق إلى استخدام آنية الطهي وبراميل الحليب وعلب الطعام وحتى أحواض الاستحمام لتخزين المرق العفن.
تأسيس معمل للإنتاج بإشراف فريق "فتيات البنسلين"
في النهاية، تم تطوير أوعية التخمير الخاصة للاحتفاظ بالسائل. ومع إنتاج البنسلين بنجاح في تلك المرحلة وإن كان بطيئاً، أصبح مختبر أكسفورد البريطاني مصنعاً للبنسلين.
وبحسب موقع PBS News، تم توظيف ست نساء في هذا المختبر، المعروفات باسم "فتيات البنسلين" وكانت مهمتهن تحضير مرق التخمير و"زراعة" بضعة ملليغرامات ثمينة من البنسلين منه كل أسبوع.
في عام 1941، ظهرت عواقب مشاكل إنتاج الفريق ونقص البنسلين مع أول تجربة بشرية لاستخدام المضاد الحيوي الواعد.
وقد أصيب ألبرت ألكسندر، وهو رجل شرطة يبلغ من العمر 43 عاماً، بعدوى تهدد حياته جراء إصابته بجُرح خلال عمله. وبالرغم من أنه قد ظهرت عليه علامات التعافي في البداية، لكن سرعان ما نفد مخزون البنسلين الذي كان يتلقى منه الجرعات، فعادت عدوى ألبرت، ومات بعد خمسة أيام.
لذلك كان على الفريق أن يلجأ إلى إجراءات "غريبة" لتعزيز الإمدادات الضئيلة.
وبحسب Science Museum، يتم التخلُّص من حوالي 80% من جرعة البنسلين من أجسامنا من خلال البول، ويمكن استخلاصها وإعادة تدويرها بالطريقة الملائمة.
وفي التوثيقات الرسمية لتلك المرحلة، كان الطبيب إيثيل فلوري، المشرف على التجارب السريرية، يعمل بشكل منتظم ويقود الدراجات ذهاباً وإياباً إلى المرضى لجمع بولهم وتكريره لاستخراج البنسلين المُستخدم منه لتوفيره للمرضى مرة أخرى.
مع نجاحهم المتزايد، اتصل فريق أكسفورد بشركات الأدوية لتصنيع البنسلين. ومع ذلك، تزامناً مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، لم تكن الصناعة البريطانية قادرة على تطوير عملية إنتاج ضخمة جديدة، لذلك بدأ الفريق بالبحث عن مكان آخر.
التوسع إلى الولايات المتحدة وتلبية احتياجات الحرب العالمية الثانية
في يونيو/حزيران من العام 1941، قرر الباحث البريطاني المشرف على فريق البنسلين فلوري، بأخذ البنسلين إلى الولايات المتحدة على أمل إيجاد طريقة لزيادة الإنتاج.
وبالفعل، تم إنشاء فريق جديد في مختبر أبحاث وزارة الزراعة بولاية إلينوي. حيث استفادوا من خبراتهم في التخمير وتصميم تقنيات جديدة باستخدام خزانات التخمير العميق لجعل تنقية البنسلين فعالة قدر الإمكان، وواسعة الإنتاج.
وكان لدى المختبر في بيوريا وفرة من الخمور مكثَّفة النقع، وهي منتج ثانوي لنشا الذرة المستخدم في تصنيع المشروبات الكحولية.
وبحسب PBS News، اكتشف الخبراء أنه عند إضافته إلى مرق العفن، زاد إنتاج البنسلين أضعافاً مضاعفة؛ إذ يوفر التركيز العالي من السكريات والأحماض الأمينية والنيتروجين بيئة ممتازة لتخمير العفن.
من هنا بدأوا البحث العالمي عن سلالات العفن التي تحتوي على نسب أعلى من البنسلين، إلى أن عثرت ماري هانت، المساعدة في مختبر إلينوي، على شمام متعفن في أحد الأسواق المحلية، وباستخدامه أنتج القالب البنسلين 6 مرات أكثر من سلالة فليمنغ الأصلية.
ومع ذلك، كانت شركات الأدوية الأمريكية مترددة في البداية في الالتزام بإنتاج البنسلين على نطاق واسع. إلا أنه بحلول نهاية عام 1941، انضمت الولايات المتحدة إلى الحرب العالمية الثانية وتزايد الطلب على البنسلين لعلاج الجرحى والمصابين.
بداية الإنتاج الضخم والاستخدام العام
بحلول عام 1943، كان لدى الولايات المتحدة مخزون كافٍ من البنسلين لتلبية مطالب القوات المسلحة للولايات المتحدة، وكذلك قوات دول الحلفاء بالكامل، بحسب موقع ACS Chemistry For Life.
وفي عام 1946، أصبح البنسلين متاحاً لأول مرة في المملكة المتحدة للاستخدام العام، وقد أحدث تحولاً في الطب في جميع أنحاء العالم وبشّر بعصر المضادات الحيوية الذي نعرفه اليوم.