يمتلك كل شخص ذكريات مؤلمة وحزينة يُفضِّل لو تمكن من نسيانها، وقد يعرف المحفزات التي تعيد تلك الذكريات إلى الارتداد والتأثير عاطفياً على حياة الشخص وصحته العاطفية والنفسية.
فالذكريات المؤلمة يمكن أن تتسبب في العديد من المشاكل للشخص المصاب، وتتراوح تلك التداعيات ما بين القلق والتوتر المزمن، والاكتئاب، وصولاً إلى اضطراب ما بعد الصدمة والفوبيا والانهيار العصبي.
وعندما تتطفل ذاكرة غير مرغوب فيها على عقلك، يكون رد الفعل البشري الطبيعي المعتاد هو الرغبة في حجبها لمنع الألم الناجم عنها. وهو الأمر الذي تمكن العلماء من تناوله في الآونة الأخيرة.
إذ أصبح من الممكن بشكل نسبي العمل على حجب الذكريات المؤلمة، وتعتيم قوة حضور المشاهد السلبية من الذاكرة بشكل انتقائي، وذلك للمساعدة على تعافي الشخص من تأثيرها الممتد على حياته اليومية وقدرته على العيش بصورة طبيعية.
كيف تتشكّل الذكريات في المخ؟
لكي يقوم عقل الشخص بتخزين ذاكرة والاحتفاظ بها، تحفز البروتينات خلايا الدماغ على النمو وتكوين روابط جديدة.
وكلما ركزنا على الذاكرة أو تدربنا على الأحداث المحددة المحيطة بالذاكرة، أصبحت هذه الروابط العصبية أقوى. وتبقى الذكرى أقوى وأكثر حضوراً كلما أعدنا زيارتها من وقت لآخر.
ولفترة طويلة، اعتقد الناس أنه كلما زاد عُمر الذكرى، زادت ثباتها، لكن اتضح أن هذا ليس صحيحاً بالضرورة.
لأننا في كل مرة نعيد فيها تذكُّر إحدى الذكريات، تُصبح مرنة وأقوى مرة أخرى. ويبدو أن الاتصالات تصبح مرنة، ثم تتم إعادة ضبطها.
ويمكن أن تتغير الذاكرة قليلاً في كل مرة نتذكرها، وتعيد ترتيبها وتعديلها وتعزيزها بشكل أقوى وأكثر وضوحاً مع كل استدعاء.
تسمى عملية التعزيز هذه بإعادة الدمج. ومن الممكن أن تغير إعادة الدمج تلك ذاكرتنا وقدرتنا على الاسترجاع إما بشكل سلبي أو إيجابي. كما يمكن أن تؤدي معالجة هذه العملية إلى نفس الشيء.
بمعنى آخر، إذا كان هناك شيء يخيفنا عندما كنا صغاراً، فقد تصبح ذكرى ذلك الحدث مخيفة أكثر بقليل في كل مرة نتذكرها مجدداً، مما يؤدي إلى خوف قد لا يتناسب مع الحدث الحقيقي.
قد يصبح العنكبوت الصغير الذي أخافنا ذات مرة أكبر في أذهاننا بمرور الوقت. ما يمكن أن يؤدي الرهاب.
في المقابل ، فإن إلقاء ضوء فكاهي على ذكرى محرجة أو على الذكريات المؤلمة، يمكن أن يعني أنها بمرور الوقت قد تفقد قدرتها على التأثير فينا بشكل سلبي.
لماذا تتمتع الذكريات المؤلمة بالوضوح الشديد والقوة؟
يجد الكثير من الناس أن التجارب السيئة التي عانوا منها خلال مراحل حياتهم المختلفة تكون واضحة وحاضرة في الذاكرة أكثر من التجارب الجيدة. بل قد تتدخل تلك الأحداث السلبية في وعينا عندما لا نريدها أن تفعل ذلك.
وقد أظهر الباحثون أن الذكريات المؤلمة هي في الحقيقة أكثر وضوحاً من الذكريات الجيدة في الدماغ عند تسجيلها، ربما بسبب التفاعل بين المشاعر والذكريات. ويحدث هذا بشكل خاص عندما تكون المشاعر والذكريات سلبية جداً.
وقد أظهر التصوير العصبي في دراسة نشرها موقع Medical News Today، أن عملية ترميز واسترجاع الذكريات السيئة تشمل أجزاء الدماغ التي تعالج المشاعر، وتحديداً اللوزة الدماغية والقشرة الأمامية الحجاجية.
وبالتالي كلما كانت العواطف المرتبطة بالذاكرة أقوى، تذكرنا التفاصيل.
وتكشف دراسات الرنين المغناطيسي الوظيفي عن نشاط خلوي أكبر في هذه المناطق المحددة من الدماغ عندما يمر شخص ما بتجربة سيئة أيضاً.
استبدال الذكريات المؤلمة بأخرى أكثر إيجابية
في عام 2012، تمكن علماء من جامعة كامبريدج لأول مرة من التأثير على آليات الدماغ التي تشارك في استبدال الذكريات وتقمعها.
ووجدوا أنه يمكن لأي شخص قمع الذاكرة، أو إجبارها على الخروج من الوعي، باستخدام جزء من الدماغ يُعرف باسم قشرة الفص الجبهي الظهراني، لتثبيط النشاط في الحُصين. إذ يلعب الحُصين دوراً رئيسياً في تذكر الأحداث.
ولاستبدال الذاكرة، يمكن للناس إعادة توجيه وعيهم نحو ذاكرة بديلة.
يمكنهم القيام بذلك عن طريق استخدام منطقتين، الأولى تسمى قشرة الفص الجبهي الذيلية، والأخرى تُسمى بقشرة الفص الجبهي الأوسط البطني، بحسب موقع Healthline للمعلومات الصحية.
هذه المناطق مهمة لجلب ذكريات محددة إلى العقل الواعي، في وجود الذكريات المشتتة للانتباه.
ويتضمن قمع الذاكرة إغلاق أجزاء من الدماغ تشاركاً في الاسترجاع. ولاستبدال الذاكرة، يجب أن تشارك تلك المناطق نفسها بنشاط في إعادة توجيه طريقة الذاكرة نحو هدف أكثر جاذبية.
ولكن في اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، فإن الأشخاص الذين عانوا من حدث مؤلم في حياتهم ينزعجون من الذكريات غير المرغوب فيها التي تصر على التطفل على وعيهم بشكل يعطّل قدرتهم على الحياة الطبيعية.
تغيير السياق المرتبط بالذكريات المؤلمة
يؤثر السياق العقلي الذي يدرك فيه الشخص حدثاً معيناً على كيفية تنظيم العقل لذكريات ذلك الحدث.
فنحن نتذكر الأحداث المتعلقة بأحداث أخرى، ومكان حدوثها، وما إلى ذلك. وهذا بدوره يؤثر على ما يثير تلك الذكريات اللاحقة، أو كيف يمكن للعقل اختيار استرجاعها.
يمكن أن يكون السياق أي شيء مرتبط بالذاكرة. ويمكن أن يشمل الإشارات المتعلقة بالحس، مثل الرائحة أو الذوق، أو البيئة الخارجية، أو الأحداث، أو الأفكار أو المشاعر حول وقت الحدث، والسمات العرضية للعنصر، على سبيل المثال، مكان الأحداث وطبيعته، وما إلى ذلك.
ونظراً لأننا نستخدم أدلة سياقية لاستدعاء المعلومات حول الأحداث القديمة، فقد اقترح العلماء أن أي عملية تغيير لتصورنا لهذا السياق يمكن أن تزيد أو تقلل من قدرتنا على استعادة ذكريات معينة.
بمعنى آخر، يمكننا من خلال فك تلك الارتباطات الكثيفة المتعلقة بالذكريات المؤلمة، أن نقوم بإضعافها شيئاً فشيئاً والعمل على منع تأثرها بالكثير من المحفزات والتحكُّم أكثر في استحضارها.
لاختبار ذلك، قام فريق من الباحثين وفقاً لموقع Dartmouth News العلمي، بتجربة على مجموعات من الناس لكي يقوموا بحفظ عدد من الكلمات أثناء مشاهدة صور للطبيعة، مثل الشواطئ أو الغابات.
وكان الهدف من الصور هو إنشاء ذكريات لها سياق ومحفزات أخرى. ثم طُلب من بعض المشاركين أن ينسوا الكلمات الموجودة في القائمة الأولى قبل البدء بحفظ القائمة الثانية من الكلمات.
وعندما حان الوقت لتذكر الكلمات، كانت المجموعة التي طُلب منها نسيان الكلمات قادرة على تذكر كلمات قليلة. وبتتبع الرنين المغناطيسي الوظيفي للدماغ أثناء تلك العملية، اتضح أنهم لنسيان الكلمات قاموا أيضاً بنسيان الصور التي جاءت في ذات السياق.
وفي محاولتهم عمدًا نسيان الكلمات، تجاهلوا السياق الذي حفظوا فيه الكلمات. بالإضافة إلى ذلك، كلما زاد الانفصال عن السياق، قل عدد الكلمات التي يتذكرونها. هذا يشير إلى أنه يمكننا أن ننسى بشكل متعمد وانتقائي.
كيف ننسى الذكريات المؤلمة بشكل متعمد؟
هناك خطوات يمكنك اتخاذها لتقليل التأثير العاطفي للذكريات المؤلمة وجعلها أقل تدخلاً في نمط حياتك بشكل طبيعي. فقط تذكر أن تلاشي ذكرى ما يستغرق وقتًا وتدريباً طويلاً، لذلك لا تشعر بالإحباط إذا لم يحدث تحسُّن فوري ملحوظ.
- حدد ذكرياتك السيئة: قد يبدو الأمر غير منطقي، ولكن إذا كنت تريد أن تنسى شيئاً ما، فمن المفيد أن تتذكره أولاً بعناية، بحسب موقع Very Well Mind.
واسأل نفسك، ما هي المشاهد والأصوات والمشاعر المرتبطة بتلك الذكرى؟
- تعامل مع مشاعرك: بدلاً من محاولة تجنب أي مشاعر غير مرغوب فيها مرتبطة بالذاكرة، دع نفسك تشعر بكل تبعات الذكرى. يمكنك أيضاً تجربة العمل مع معالج نفسي متخصص لتعلُّم طرق صحية للتعامل مع المشاعر المؤلمة.
- اكتشف محفزات تلك الذكريات المؤلمة: ربما في كل مرة ترى نوع السيارة التي سببت لك حادثاً أليماً، سيستعيد دماغك ذكرى الارتطام والألم الجسدي والرعب الذي عانيته عند التعرُّض للحادث.
أو ربما تذكرك رائحة حساء الدجاج بوالدتك المتوفاة، وتغمرك ذكريات جنازتها. لاحظ المحفزات التي تسبب عودة ذاكرتك لتلك المنطقة المؤلمة وقم بتسميتها بأسماء واضحة.
- حاول استبدال الذاكرة: من الأفضل استبدال انتباهنا ببدائل صحية بدلاً من محاولة التخلص من تلك الذكريات وكبتها. على سبيل المثال، عندما ترى نوع السيارة التي كنت تقودها عند التعرُّض للحادث، حاول التفكير في الوقت الذي قدت فيه السيارة إلى الشاطئ عوضاً عن يوم الحادث.
- في النهاية، مع التدريج والمثابرة ستقوم بتدريب عقلك على استبدال الذاكرة غير المرغوب فيها بالذاكرة الجديدة.
- مارس أسلوب حياة صحياً: يمكن أن يؤدي الإجهاد وقلة النوم إلى استحضار الذكريات غير المرغوب فيها.
لذا قبل أي شيء تأكد من حصولك على قسط كافٍ من النوم وتناول نظام غذائي مغذٍّ ومتوازن، وممارسة الرياضة.
وبشكل عام حافظ على نمط حياة صحي يعزز صحتك العقلية والعاطفية، إذ يمكن أن تساعدك ممارسة اليقظة والتأمل والصلاة على إبقاء أفكارك متوازنة وحاضرة في اللحظة الآنية عوضاً عن الاسترسال في الماضي المؤلم أو المستقبل المقلق.
يؤكد فريق “عربي بوست” على أهمّية مراجعة الطبيب أو المستشفى فيما يتعلّق بتناول أي عقاقير أو أدوية أو مُكمِّلات غذائية أو فيتامينات، أو بعض أنواع الأطعمة في حال كنت تعاني من حالة صحية خاصة.
إذ إنّ الاختلافات الجسدية والصحيّة بين الأشخاص عامل حاسم في التشخيصات الطبية، كما أن الدراسات المُعتَمَدَة في التقارير تركز أحياناً على جوانب معينة من الأعراض وطرق علاجها، دون الأخذ في الاعتبار بقية الجوانب والعوامل، وقد أُجريت الدراسات في ظروف معملية صارمة لا تراعي أحياناً كثيراً من الاختلافات، لذلك ننصح دائماً بالمراجعة الدقيقة من الطبيب المختص.