في صباح أول يوم بعد عطلة طويلة كنت أظن أنني وحدي من استيقظ في مثل هذا التوقيت، ارتديت ملابسي ونزلت مبكراً جداً، وظننت أنني لن أجد سوى كلاب منطقتنا رفقاء لي في رحلتي، ولكن اتضح لي أن الجميع على الأغلب قد فكروا نفس تفكيري المحدود ليبدأ الزحام من الباكر بدلاً من أن يبدأ بعد ذلك قليلاً، تماماً كمعتقد الذهاب إلى الحلاق في ساعة متأخرة "علشان الدنيا تكون رايقة"، أو كمعتقد النزول قبل العيد بأسبوعين "علشان نجيب طلباتنا قبل الدنيا ما تتزحم"، لتفاجأ أنك عضو من أعضاء نادي الزحام ليس إلا.
أشباح حولك تركض في كل مكان؛ جفون تقاوم الانغلاق بمنتهى الصعوبة وتتمنى لو تأتي فرصة الاستسلام بأي طريقة ممكنة، نسبة مبيعات مهولة لمشروب القهوة في المقهى على أول شارعنا أكثر من أي وقت آخر، عيون محدقة في شاشات الهواتف دون توقف، دون تواصل، دون صباح أو مساء الخير أو أي شيء، عيون تأبى التواصل الحقيقي بكل أشكاله، ليأتي على غير المتوقع رجل يكسر ذلك الزحام الأجوف، رجل من عالم آخر ما زال مبتسماً رغم علامات الزمن العميقة على وجهه، حاملاً جريدته الصباحية ونظارة القراءة في الجراب الجلد وعلبة سجائره الكيلوبترا ليكون الناطق الأول بكلمة "صباح الفل" للقهوجي طالباً قهوته التي يبدو وأن القهوجي يعلمها جيداً.
لم أستطع منع نفسي عن مراقبة ذلك الرجل النادر في شارعنا، فبعد لحظة من جلوسه وجدته يقلب الصفحة الأولى فالثانية ثم الثالثة من جريدته، لم يهتم لأمر أخبار السياسة ولا الرياضة ولا حتى أخبار الاقتصاد أو الحوادث، فقد كان يعلم تماماً ماذا يريد في الصباح حتى يواجه العالم، ماذا يمكن أن يوقظ عقله النائم، نعم إنها هي الكلمات المتقاطعة دون أي استعانة منه بجوجل للبحث عن معلومات عقله التائهة، فقط عقله هو السبيل الوحيد للمعلومة، يفتش في ثناياه ويغوص في أعماقه حتى يحل اللغز الذي أمامه، لم يرهقه برسائل صباحية وأشياء تميته وتصيبه بالانشغال قبل أن يستيقظ فعلياً من سُباته العميق، لن أكذب، كنت أظن أن الجرائد الورقية صارت فائدتها الوحيدة الآن هي تلميع الزجاج والمرايا وصنع قراطيس التسالي، ولكنني منذ زمن لم أجد من يقدر تلك القيمة الحقيقية.
ولمَ لا يكون ظني كذلك وقد صار عالمنا أوسع مما يمكن أن تستوعبه عقولنا؟ لمَ لا يكون الأمر كذلك ونحن صرنا أبعد ما نكون عن زمام أمورنا؟
ليلة البارحة نمت وأنا أشعر بالاكتئاب لأنني عشت قدر ما عشت ولم أجرب كيفية أكل الطعام بالعصيّ حتى الآن، ولم أقم بالقفز من على متن طائرة وسط السحاب ولم أركب سيارة خارقة كتلك التي كان يركبها باتمان، كيف لم أجمع حتى الآن أول مليون في رصيدي البنكي؟ كيف لم أفتح أول مشاريعي الناجحة؟ كيف لم أقفز تلك القفزة التي قفزها كثيرون دون اللجوء إلى الصعود التدريجي على سلم الحياة؟
كيف لم أكتب كتاباً أو أصنع محتوى كئيباً أو تافهاً أو علمياً أو دينيا أو أياً ما كان حتى ذلك العمر؟
هل أملك موهبة التمثيل حقاً؟ صغيراً، كنت جيداً في لعب الكرة على قدر ما أتذكر، ولكن هل فات عمر البداية المناسب كي أصبح رياضياً ناجحاً؟
زحام من الأفكار التي تركض داخل صدرك ولن تجد لها حلاً عملياً في زحامها سوى النوم أو الإدمان أو البكاء أو السخط.
بنظرة تأملية كنت أسأل نفسي: كيف تحوّلت الفنون من موهبة إلى سبوبة؟
كيف كان الفن في عصر مضى مقتصراً على الأصدق حباً وموهبة وليس الأمهر في تجميع العدد الأكبر من المتابعين؟
لا أتحدث عن الصدق بناءً على علمي بدواخل النفوس، ولكن كل ما في الأمر كانت محطات الظهور جميعها تتطلب القيام من سريرك، القيام من أمام شاشة حاسوبك، القيام والركض والسعي حتى تصل إلى مرادك؛ لذا كان لا يكمل الطريق إلى النهاية سوى الأصدق حقاً.
وتلك الندرة تحديداً كانت تجعل الفن كامل الطهي محضراً تماماً على نار هادئة، والذوق العام كان لا يقبل تناول إلا الجميل حقاً غذاء لروحه.
كيف تصنع فيلما الآن بحبكة كاملة تحترم العقول في شهور قليلة؟ كيف تخرج بمعزوفة موسيقية تتنفس أوتارها وتحدث قلبك التائه وحزنك البالغ وفرحك النادر وأنت في سباق من يلحق أولاً، لا من يؤدي جيداً؟ كل شيء الآن أصبح "نُص سِوا".
وعلى ذكر السباق، كنت في نقاش مع صديق صار لا يقرأ من أجل توسيع الأفق والتأمل، ولكن لينجز أكبر عدد من قراءة الكتب، ولا أنكر أنه يفعل ما لا أقدر على القيام بفعله، ولكني دائماً أتساءل: ماذا يفيد الإنجاز دون فهم؟ قد أستغرق شهوراً في كتاب واحد لأتعمّق في فهم معانيه ومقاصده، كي أتذكر جملاً علقت في ذهني وأعود لقراءتها أكثر من مرة لأتمتع بجمالها شهوراً، كي أتجرد من ذاتي وأعيش حالة الكاتب وأبطال القصة وحالة القراء بمختلف أفكارهم.
ومن نفس المنطلق صارت مواقع التواصل الاجتماعي لا تعطي عقولنا معلومة واحدة، ولكن صارت تكبس المعلومات داخل عقولنا لتمتلئ مساحة العقل القادرة على الاستيعاب والتخزين أولاً بأول دون أي فرصة سانحة للتفكير والتأمل.
إذاً كيف يمكن أن يتحقق الإبداع وسط هذا الزحام؟
منذ فترة شاهدت وثائقياً على منصة netflix أنصح الجميع بمشاهدته اسمه social dilemma، يجرى فيه الحديث مع عدد من صناع اللعبة، عدد من رواد عالم التواصل الاجتماعي، يتحدثون عن كيف يعمل الجميع في تلك الشركات على قدم وساق لإبقائك أطول مدة على تطبيقهم بطرق لن تصدق أنها مقصودة، أو ربما وإن صدقت لن تصدق كيف أنك متحكَّم في عقلك إلى هذا الحد وكأنك دُمية كتلك الدمى التي كنت تلعب بها في طفولتك وتجعلها تقود دراجتك وتشاركك أكلك ونومك وكل أوقاتك دون إرادة منها.
كان أحدهم صاحب فكرة خاصية من الخصائص الناجحة، كان يتحدث عن أنه لا يعلم ماذا حدث، ولكن بالرغم من أنه صاحب الفكرة وأكثر العالمين بغرضها وكيفية عملها، لم يستطع منع نفسه من البقاء أوقات طويلة على التطبيق بسببها!
في النهاية أتذكر قول الشاعر مصطفى إبراهيم، والذي لم أشعر في حياتي بإهانة قدر ما شعرت من ذلك القول عندما كتب:
والآلة قدامك بتتأكد إن أنت مش آلة
في إشارة إلى ذلك الإثبات الذي تقدمه في كل مرة تفتح حساباً أو غير ذلك على كثير من مواقع الإنترنت، أنك لست آليّاً، ولكن تُرى تقدم ذلك الإثبات لمن؟ نعم لآلة! تقدم إثبات أنك لست آلياً لآلة.
ومن هنا، برغم عدم علمي بذلك الرجل- متصفح الجريدة- ولا مجريات حياته ولا مشاكله ولا أزماته، ولا أحلامه المخفية ولا حساباته السرية، فإنني قررت بناءً على نظرتي السطحية أنه هو الناجي الوحيد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.