نستكمل حديثنا عن المشاعر، وقد توصلنا بصورة مبسطة إلى أن المشاعر تأتي لترشدنا لاحتياجاتنا النفسية، والأحاسيس ترشدنا لاحتياجاتنا الجسدية، وتخبرنا النظريات العلمية أن الإنسان له احتياجات نفسية كثيرة على رأسها هذه الاحتياجات النفسية الأساسية:
الاحتياج للانتباه والاهتمام
الاحتياج للأمان والسلامة
الاحتياج للتحكم والسيطرة
الاحتياج للحميمية والانتماء
الاحتياج للمكانة والتقدير
الاحتياج للاستقلالية والحرية
الاحتياج للمرح والتنوع
الاحتياج للغاية والهدف والمعنى
الاحتياج للنمو وتحقيق الذات
كل هذه الاحتياجات المعنوية لا نعلم عنها شيئاً، كل ما نعلمه هو احتياجنا للطعام والشراب والمسكن والملبس والنوم والجنس، مع أن تلك الاحتياجات تقع في أول (هرم ماسلو) وليس الهرم كله، أي تعتبر البداية للحياة وليست الحياة كلها، ونلاحظ أن الإعلانات تتنافس في ملء هذه المساحة فقط كأنها كل شيء (أفضل مطعم – أفضل مجمع سكنى – أفضل ملابس – أفضل مشروبات… وهكذا)، ويترجم معظمنا الاحتياجات النفسية بالخطأ إلى احتياجات جسدية.
ففي أحيان كثيرة تكون تلبية احتياج لفت الانتباه والاهتمام هو السبب الأساسي للسعي وراء الماركات العالمية، فهو يعتبر أن ذلك سيزيد من اهتمام وانتباه الناس إليه.
وأحياناً الاحتياج إلى الحرية والاستقلالية يظهر فقط في اختيار نوعية ملابس لافتة وليعلن بها الشخص تمرده.
وأحياناً الحاجة إلى المرح والتنوع تنحصر فقط في تنوع المطاعم والمساكن وأحياناً التنوع في العلاقات، وقد يقود ذلك المرءَ إلى أشكال متعددة من الإدمان مثل إدمان التسوق وإدمان العلاقات والألعاب الإلكترونية، وإدمان المواد المخدرة كسلوكيات تعويضية يحاول بها أن يسد الفجوة أو الثقب الأسود الذي يبتلع أي سعادة أو تلبية للاحتياجات النفسية الشعورية عن طريق تلبية الاحتياج الجسدي.
فأنا حين أحس بالعطش هل يكفيني أن يأتي إليّ شخص يربت على كتفي متفاعلاً معي ومتفهماً لعطشي أم إن الحل هو كوب من الماء البارد؟ هكذا الاحتياجات النفسية حين نسدها بواسطة الجسد فلن تسدد وهذا هو مربط الفرس.
ذلك الشخص المتعدد العلاقات الذي يبحث عن أمان مفقود واهتمام واحترام، هل سيسد ذلك الثوب مئة علاقة غير مستقرة؟ بل على العكس سيزيد ذلك الحفرة والفجوة بداخلة؛ لأنه يفقد احتياجات نفسية أخرى معها، كفقدانه الاحتياج إلى الغاية أو المعنى لوجوده.
يصبح وجوده قائماً على رحلة استهلاكية مريرة مستنزفة لا تنتهي، لأن الاحتياجات الجسدية قائمة على الفناء فور انتهاء اللذة وعلى الاستمرارية من حين إلى آخر؛ فحين نجوع ونأكل نشبع، ولكن بعد فترة نجوع مرة أخرى وهكذا؛ نأكل لنحصل على الطاقة لاستمرارية الحياة ونرتدي الملابس لنستطيع التحرك ولنجد لنا مكاناً في هذا العالم عن طريق إيجاد معنى وغاية ووسيلة.
وحين نقع في فخ الاحتياجات الجسدية دون النفسية نظل هناك قابعين في أسفل هرم ماسلو، تتصارع علينا السلع الاستهلاكية والإعلان والتسويق في استنفاد قوانا للبحث عن الأفضل.
ولا تنتهي الحلقة المفرغة، ويصبح الهدف تلبية الاحتياجات الجسدية وللأسف نصبح عبيداً للتلبية الخاطئة، وأحياناً الاحتياج إلى السيطرة والتحكم هو ما يفسد العلاقات؛ لأنه يفسر عن طريق محاولة السيطرة على الآخر، وقد يفقدك من تحب لمجرد أنك لم تفهم أو احتياجك بطريقة سليمة.
يقول العالم إريك فروم إن الأم ترضع أطفالها اللبن والحب والاحتواء، ترضعهم حب الحياة، والأب يشق لهم الطريق ويوجههم. فتبين لنا أننا نحصل في طفولتنا على تلك الاحتياجات النفسية والشعورية، وعندما نفقدها نظل طوال حياتنا نبحث عن هذا الإشباع، كلٌّ بطريقته وفق ما تعلمه في الحياة ويظل يبحث ويبحث بقدر احتياجه.
التربية ليست فقط تلبية احتياجات جسدية؛ أكل وشرب وفسح وهدايا وحياة مادية واحتياجات جسدية، التربية بناء عاطفي وتلبية لاحتياجات شعورية، وأنا أشعر بالتقدير تجاه كل شخص شجاع يقرر كسر الحلقة المفرغة من الإساءات المتوارثة ويبدأ الرجل تعلّم الأبوة والفتاة تعلُّم الأمومة ليربيا أنفسهما قبل أولادهما، لينشأوا نشأة صحيحة، يشبعون فيها احتياجاتهم بالشكل السليم، فمن يبدأ في رحلة التعلم لا يقدم خدمة لذاته فقط، بل خدمة لأجيال قادمة جديدة، بوعي جديد، فاعرفوا احتياجاتكم وكيفية التعامل معها، ودمتم في صحة وعافية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.