"أريد الحفاظ على من أحب وهذا المرض يسرقهم مني، فما يلبثون حتى يستيقظوا على شخص آخر غير الذي تعودوا عليه، فيتساءلون من هذا؟ ثم يرحلون".
أذكر جيداً هذه الجملة لشاب جيد في جلسة حوار شبابية عن تجارب الاكتئاب، وكيف انسحب من حياته أصدقاؤه وأهلُه، وتحول لكتلة لحم بالية في زاوية غرفته، على حد وصفه.
كتبت كثيراً في موضوع الاكتئاب وأسبابه وكيف نتعامل معه، لكن لب المشكلة كلها أننا لا نملك الوعي الكافي للصحة النفسية في حياتنا، نهملها كأنها شيء ثانوي أو حتى شيء معيب، يُنقص من قيمة الإنسان ويسلط عليه نظرة منبوذة.
القارئ لمشهد الشارع اليومي يجد أننا نستخدم كلمة "مريض نفسي" كنوع من الشتيمة، لأي إنسان يخالف آراءك وأفكارك، هذا يدل على أن هناك فكرة خاطئة تسير على قدميها كل يوم وتقف على باب غرفة المريض النفسي الحقيقي وتمنعه من الذهاب إلى الطبيب وطلب المساعدة.
من المضحكات والمبكيات موقفٌ حدثتني به صديقة كانت متطوعة في الإرشاد النفسي، عن فتاة تأتي لوحدها للمركز، وحين دار الحديث عن الأهل وهل يعلمون بقدومك؟ لأن الأخصائية أرادت تشبيك العلاقات ما بين الطب وأجواء البيت الأليفة التي تساعد على تخطي الأزمة، أجابت المريضة بأنها تأتي بالخفية فأمها ترى أن ذهابها للعلاج النفسي سيطال سمعتها، فمن الذي يريد أن يتزوج بمريضة نفسية؟ ومن يريد أن يرتبط بفتاة كانت تأخذ المنوم من أجل الهروب من الحياة حتى أصابها ارتخاء في العضلات كأعراض جانبية؟
أيضاً من المبكيات أن تسمع قصة قتل رجل لزوجته أو لأطفاله وتنتهي القضية بأن القاتل يعاني من اضطرابات نفسية، لنفترض معاً أن هذا الكلام ليس لتبرئته، وأنه حقاً مريض، كيف يُزوج؟ وكيف تسعى له عائلته ببيت وزوجة؟ دون أن تراعي أنه يشكل خطراً على نفسه أولاً وعلى بيته ثانياً.
جميعنا حين يهم بنا مرضٌ جسدي نذهب ببساطة إلى أمهاتنا والأطباء ونحكي عما يؤلمنا، ولكن حين تقسم صدورنا بحزن مميت أو يجتاحنا الاكتئاب نعد للمليون قبل أن نفصح عما بنا، لأننا تربينا على فكرة أن المرض هو ما يظهر، هو ما يستطيع الناس مشاهدته من جرح أو كسر ودماء وصراخ ليتعاطفوا معك ويصدقوك، لكن ما يميتك ببطء هو نوع من الدلال والكذب.
نحن حتى الآن لا نعي معنى أن تصاب سيدة باكتئاب ما بعد الولادة، وهو اكتئاب يشكل خطراً عليها وعلى طفلها وقد تصل إلى مؤشرات انتحارية أو محاولة إيذاء المولود، لا نملك أي أدوات تعاطف أو مساندة لها، ونظن أنها "تتدلل على زوجها"، وأهل بيتها، ليساعدوها في المسؤولية الجديدة، وحتى على مستوى الرعاية الطبية في المشافي لا يعطى لهذا الأمر أي أهمية، على عكس المجتمعات التي تنتشر عندهم الثقافة النفسية، فتراهم يجرون للأم اختبارات نفسية ويطرحون عليها الأسئلة ليستدلوا على صحة نفسها وسلامتها العقلية قبل أن تخرج من المشفى.
إذاً نحن نهيئ للمريض مقدماً أننا لن نصدقك، لأنك إنسان "تتدلل"، وربما تكذب للفت الانتباه والتعاطف أو لتستريح من عملك ومسؤولياتك.
بالإضافة إلى ذلك، خوف المريض من تهمة جاهزة ومستعملة بكثرة وهي البعد عن الدين، فتبدأ الاتهامات: "أكيد أنت لا تصلي، أكيد أنكِ تقترفين الآثام، ولذلك تشعرين بالاكتئاب، وعليك فقط بالصلاة والزكاة… إلخ إلخ".
لنتفق على أمر مهم، المرض النفسي بشكل عام يصيب المسلم وغير المسلم، المتدين وغير المتدين، من يقوم بكل الفرائض ومن ينقص بها، الكبير والصغير، الفقير والغني، حتى أنه يصيب الحيوانات، بالتالي لا توجد علاقة حتمية بين مدى تقصيرك ومدى مرضك، سيقول البعض "ألا بذكر الله تطمئن القلوب"، نعم تطمئن، إن كانت خائفة وإن كانت متزعزعة الأمل، فمن الناس من يجد الشفاء والاطمئنان بالقرآن ومنهم من لا يجد.
ببساطة لأن الناس ليست كلها واحداً، ولكل إنسان مستوى روحاني وعقلي متفاوت، فمثلاً هل إن اشتكى صديقك المسيحي من اكتئاب ستقول له عليك بالقرآن الكريم؟ أو صديقك الملتزم بصلاته وقيامه وتقول له اقرأ وتهجد، سيجيبك بأنه يقوم بكل ما تقول وتنصح به! لكن لا زال يفكر بالانتحار.
أنا لا أقصي دور العبادة والروحانية، إنما أقول إن المرض مستويات، فمن كان مستواه بسيطاً يمكن أن يحل بالكلام والروحانيات.. إلخ، ومن كان مستواه متفاقماً يحتاج إلى مختص وتدخل كيميائي، أيْ دواء وعلاجات كثيرة، فالمرض النفسي أحياناً تكون أسبابه عضوية مثل نقص الحديد المرتبط بالدوبامين أحد الناقلات العصبية، أيضاً حاجته إلى أدوية معينة لزيادة نسبة هرمون الأندروفين وغيرها من الأسباب، لذلك يوجد الكثير من الطرق ويجب أن نستخدمها كلها لمساعدة المرضى النفسيين.
فترى البعض تنفرج أساريره حين يمارس الرياضة ويربي حيواناً أليفاً ويسمع الموسيقى ويلعب اليوغا باعتبارها تنشط الروح، وترى البعض يتحسن حين يعطي ويتطوع في المجتمع كأن يرعى يتيماً، وبعضهم تتجدد روحه في السفر، وأخرى في الابتعاد عن الضغط والعمل، ومنهم بعد أن يأخذ العلاجات الكيميائية، هي أنفس متعددة لكل حسب ثقافته ووعيه وحالته والمستوى المرضي الذي وصل إليه، والأهم من كل ذلك أننا حين نقصي الأدوات الأخرى في الشفاء سنقدم للناس حلاً ساذجاً.
فترى أحدهم يجر ابنه لعراف أو مشعوذ يرتدي ثوب الدين فيبدأ بربط الشاب وضربه، لأن هذا الاضطراب النفسي ليس موجوداً في قواميس الناس وإنما هو نوع من الجن، أو "حجاب وطلاسم" من أجل جنونه، وغيرها من التعقيدات الهوائية والشعبية التي يمكن أن يحلها الطبيب النفسي المختص بجلسات علاجية؛ يعرف الأسباب ويختار العلاج المناسب.
وأحب أن أذكر هنا قراءة ربانية جميلة قالها أحدهم في قصة مريم العذراء حين وضعت طفلها من غير أب وأصابها اليأس والحزن حتى قالت: "يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً"، فلم يرد عليها الله بأنك يا مريم سيئة أو بعيدة عن ديني أو لأنك لا تثقين بربك أو لم ترضَي بما قدر الله لك، بل عاملها كنفس إنسانية اجتاحها الضعف فلم يقل لها قومي استغفري وصلي وصومي وتقربي مني، بل قال لها مارسي ما يهدئ نفسك البشرية: "كلي واشربي وقَرّي عيناً"، لم يطلب منها فوق طاقتها ويتهمها بالبعد والتقصير، لأنه الله الذي يعلم نواقص النفس، فالدين لم يوصد الباب أمام العلم والطب وفهم الحاجة البشرية.
لا يمكن أن نسير بالإنسان نحو الأفضل إلا بالعمل على وعيه وعقله وجسمه ونفسيته، حتى ينعكس هذا الوعي على العمل والأخلاق وشخصية المواطن الجيد، وينعكس بدوره أخيراً على المجتمع الجيد، فالروح مثل الجسد تمرض وتتعب، بل وتموت قبل الجسد أحياناً.
لذلك نشر ثقافة الصحة النفسية من متطلبات الحياة الجيدة، والتصالح مع وجود هذه الأمراض هو البداية لعلاجها، دون إخفائها والخوف منها، والمسؤولية تتوزع على الجميع، من أفراد وحكومات، من مراعاتك وانتباهك لصحتك وصحة عائلتك النفسية والمقربين، إلى توفير الحكومة مراكز علاج وتدشين الثقافة من خلال النشاطات والمؤتمرات والزيارات الطبية في المدن والقرى والندوات في الجامعات والمدارس حتى تصبح ثقافة شائعة.
يقول الفيلسوف ألبير كامبو: "عارٌ على البشرية أن ينتحر أحدهم وقد كان في حاجة فقط إلى عناق طويل"، القرب والصداقة والحب والاهتمام تخفف الأمراض النفسية وتقدم مساحة كبيرة للمريض بأن يفصح عن مرضه، أفشوا بينكم العناق واجعلوا البيوت دافئة، فالذي يعاني يبني أسواراً متينة حول نفسه حين لا يجد من يفهمه ويقدر مرضه لكن ستجد دوماً نافذة صغيرة تستطيع مد يد المساعدة له.
لكل مريض يعاني: لا تتردد في طلب المساعدة، لنفسك عليك حق، لربما ضاقت نفسك عليك، لكن كل شيء يمكن أن يصبح بخير حين تنوي وتريد وتطلب يد العون، تذكر أن الواقف أمام القطار لا يرى إلا مقدمة القطار التي تريد أن تدهسه، عكس الذي ينظر إليك من فوق الجسر، يستطيع أن يقدر الموقف ويلتمس الأمل، فأنت ترى أن النهاية حتمية لأن نظرتك أصابها الرماد، لكن من معك يرى بعقله المتوازن أكثر منك في هذه اللحظات، فاتبعه واتبع العلاج حتى تنجو، فنحن نحبك ونريدك بيننا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.