ذات يومٍ قال لي صديقي: "أريد أن أترك دراسة الطب! أعرف أنك تحسبني أبالغ أو "أتبتر على النعمة" أو ربما أحاول المزاح السخيف لأضيع وقتك، لكن لا مزاح في الطب، فأنا لم أعد أقوى على العيش هكذا في هذا البؤس، لقد رسبت مرتين في عامي الدراسي الثاني، فكم سنةً تلزمني في رأيك لأعبر سبعة جسورٍ دون أن أفقد عقلي أو روحي في النهاية؟ لم أحبب الطب ساعةً مذ عبرت جدران هذه الكلية البائسة، دخلت المجال عنوةً، أو قل اندفاعاً، كما دخله الآلاف مثلي ممن أتت درجاتهم في قمة تنسيق الثانوية العامة، رغبةً في إرضاء أهلهم وأحبابهم ليكون هناك طبيبًا ذا شأنٍ في العائلة".
في الحقيقة لم أعرف كيف أجيب هذا الشاب، وضعت نفسي مكانه ورأيت المشهد بزاويته فلم أستطع، لأنني مؤمن أن لكل شخص قدرات وطاقات محددة تختلف عن الآخر، قد تعينه على هذا المجال دون ذاك، ولكن إذا أخبرته أن يترك مجاله ويتحول إلى آخر، فإن الناس لا ترحم وربما يتأثر بمن حوله من الأهل والأصحاب، وقد يعود به الزمن لاحقاً ليلعن نصيحتي تلك حين يرى أصحابه قد تخرجوا وأصبحوا أطباء في مجتمع لم يعد يرحم طبيباً ولا مريضاً من الأساس. وإذا أخبرته أن يبقى ويكافح فقد ينتهي به الأمر إلى الانتحار في بيئة تعليمية أقل ما يقال عنها أنها مستشفى أمراض نفسية متعددة الأقسام، مترامية الأطراف، لكن المرضى هم طلاب الطب أنفسهم.
لكني ارتأيت هنا أن أتناول القضية من بدايتها وننظر إليها من الزوايا الحرجة.
جيل الآباء وتعسف المجتمع الرأسمالي
مع نظرة أبناء جيلنا الحيادية والمنضبطة نسبيّاً في شأن الحريات الشخصية في أمور مثل: اختيار المجال الدراسي وشريك الحياة وحرية المسكن وأنماط المعيشة والسفر وهلم جرا، يجب الإلمام بكل الظروف والعوامل النفسية والاجتماعية التي أثرت على الجيل السابق من الآباء في اتخاذ قرارات معينة بشأن مستقبل عيالهم، ومنها:
1- ضمان وظائف وأبواب رزق معقولة تكفلها المجالات الطبية والهندسية أو القطاعات الشرطية والعسكرية في ظل صراع المادة والنظام الرأسمالي العالمي القائم، وفي المقابل تدني الأجور أو صعوبة التوظيف والعمل في معظم القطاعات الأخرى: كالمحاسبين والمترجمين والمعلمين خاصةً.
2- الوجاهة الاجتماعية التي تقترن بالألقاب التابعة لتلك المجالات وتأثير الهالة النفسية والاجتماعية التي تفرضها على المحيطين، والتي صنفت الكليات إلى "قِمة وقاع" وأحدثت فجوة صراع ومقارنة وعنصرية داخل المجتمع العلمي والمهني.
وبصراحة هم مرغمون ومسيرون تحت وطأة ذلك التصنيف المجتمعي الظالم، لكن مع كثير من التحفظات الجانبية المهمة التي تسبب مشاكل شبه دائمة في مستقبل وحياة عيالهم فيما بعد.
والنتيجة الحتمية؟ أن الآباء والأمهات -متكئين على دافع الحب والمسئولية وعلى اختلاف بيئاتهم الاجتماعية والثقافية- دائماً يفكرون في المستقبل البعيد، فيرون أنفسهم أكثر حكمةً وتجربةً من أبنائهم المدللين الصغار مهما نضجت جلودهم وعقولهم وأعمارهم، لذلك يتعاملون معهم كأنهم روبوتات آلية، صحيح أنهم يوفرون لهم كل متاح من سبل الراحة والمادة لضمان بذل الجهد والوقت من أجل المذاكرة، لكنهم يدفعوهم -كرهاً أو طواعيةً- لتحصيل الدرجات النهائية خلال تعليمهم الأساسي، كي يتمكنوا من دخول أحد هذه المجالات حتى لو كان ذلك ضد رغبة وقدرة أبنائهم الشخصية، وحتى لو كان الأب والأم أنفسهم باطنيًّا مقتنعين ببطلان ذلك التحكم والتقيد لحريات أفراد آخرين، لكن التأثير النفسي والاجتماعي أكبر من قناعتهم تلك.
موروث اجتماعي أم حرية شخصية؟
حالياً أسأل نفسي سؤالاً ضمن الأسئلة الوجودية الكثيرة التي تغرقني: عندما تصير أباً، هل ستحث وتنصح -ولن أقول تجبر- ابنك بشأن اختيار كلية/ زواج/ سكن، أو أي قرار معين له تأثير كبير على مجريات حياته، حتى وإن ارتأى غير ذلك؟
الإجابة المتسرعة المليئة بعنفوان الشباب ستكون: إطلاقاً، أنا ووالدته واعيان ومتفهمان لطبائع الأمور، ولن نكرر أخطاء الماضي التي وقع فيها أباؤنا، لذا عليه خوض التجربة بحسنها وسوئها، واختيار المجال أو الشريك أو السكن الذي يناسب قدراته ويتوافق مع ميوله ورغباته.
لكن الحقيقة أن هناك وسواساً داخليّاً لا يكُفُّ عن الصراع وتقليب الأمور والمعطيات، وشعور بالمسؤولية تجاه صغيري الذي ربما يكون قراره خاطئًا ولا يدري بعد مآل هذا الخطأ.
وهنا يأتي السؤال الأصعب: هل يدفع الأهل أبناءهم لتحقيق مستقبلٍ أفضل لهم، أم لتحقيق مستقبلهم العالق -كآباء وأمهات- في بئر الماضي السحيق؟
تجارب الماضي والتفضيلات الشخصية والآمال التي تلاشت مع حقيقة الواقع الراهن، والطموحات التي اندثرت لخطأٍ صغيرٍ لم يكن في الحسبان، وغيرها من أحاديث النفس وترسبات النشأة، تؤثر بشكل أو بآخر في أفكارنا والقرارات التي ندفع عيالنا إليها. لذا فإن هذه العقبات النفسية للأسف هي أحد الأسباب الرئيسية التي تجعل الأهل حريصين كل الحرص على قطع أبنائهم ذات الطريق التي لم يتمكنوا هم من قطعها، أو على الأقل دفعهم لاختيار طرق ومسارات أفضل مما حصلوا هم عليها، وهذا سبب التعنت والعناد والقسوة في التعامل عند أغلب الأهل من أوساط الطبقات الاجتماعية في مجتمعنا العربي.
وهنا اختتم الشاب رسالته كأنما دخلت غرفة الإنعاش لا صندوق البريد:
"أنا متعب الآن، أشعر أنني أصارع العالم وحدي، أغلفة الكتب تصيبني بالاكتئاب ورائحة العنابر والأقسام تشعرني كأني داخل أحد أفلام الرعب التي أحب مشاهدتها لكني لا أحب أبداً أن أكون جزءاً منها. أسوأ ما في الأمر أنني لا أقوى على التراجع الآن، كيف سيراني زملائي وأنا أنسحب أمامهم وأترك جامعتي؟ كيف سأواجه عائلتي وأقاربي وأرقب نظرات الحسرة والشفقة على حالي؟ فإني انتهيت".
وانتهت معه مقالتي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.