قبل أن تُقدَّر بـ”اللايكات”.. كيف كان يُعبّر الناس عن مشاعرهم؟

تم النشر: 2021/06/16 الساعة 10:52 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/06/16 الساعة 10:53 بتوقيت غرينتش
صورة تعبيرية لموقع إنستغرام/ıstock

في الليل تثقبني ذاكرتي باللوم حين أنتهج نهجاً مماثلاً في منشور ما عن توثيق لحظة سعيدة بصورة على وسائل التواصل، معقباً عليها بـ"حتى لا أنسى" أو ما يماثلها. تقول ذاكرتي: أين صورك حين لعبت "البلي" في الشارع قبل عشرين سنة؟ وحين جريْتَ خلف الكرة، توقف السيارات لتلحق بها قبل أن تُدهس، والخلاف على مساحة المرمى بين الحجرَيْن؟ أين صورة نظرة حبك المراهق الأول؟ أين وأين؟ لا يوجد؟ إذن كيف تذكر ذلك كله يا جاحد؟

هذا ببساطة هو ما فعلته وسائل التواصل بذاكرتنا المسكينة، وكأن حساب فيسبوك قد أمَّم ملكيتها لصالح "التصفيق للقطة"، على حساب "دفء حقيقتها". سرحتْ وسائل التواصل في عاديّات حيواتنا حتى ضخمتْها للإعجاز، أنظر لمشهور من المشاهير يضحك لزوجته وسط حسد وتصفيق وتشجيع الآلاف، فأنظر لأبي وأمي وأقول: كيف فاتكما أن تصبحا أسطوريَّيْن بكل هذا التاريخ من نظرات الحب والمعروف على كنبة في المنزل أو أمام التلفاز وكوبين من الشاي؟

فلان الممثل وقف بجانب زوجته في موت أبيها! يا لَه من إنسان!

فلان المطرب قد اعترف بحبه لزوجته! يا بخت الحب به!

فلان لاعب الكرة قد أظهر فرحته يوم زفافه! كم كافح!

أصبحت الآن أنتظر أن يقال: فلان حضر زفافه، يا حظ عروسه!

اليوم أسأل نفسي:

كم من نظرات عشاق لم تُصور؟ وكم لحظات امتنان لم تُكتب في منشور؟ وكم من معروف بين حبيبَيْن تحت سقف واحد لم يُصفق له إلا قلباهما؟ إن جمال العادي هو أن يبقى عادياً، وقدسية المخبوء في أن يظل مخبوءاً، وبراءة الإحساس هو أن يُحسَّ لا أنْ يُوصف.

تضخيم الروتين سوف يقع في نهاية القصة على رؤوس كل مَن ضخَّموه حتى لَيظنوا أنَّ مناولة أحدهم كوب ماء لآخر هو تذكرة الجنة، وويل للعطشى حينها! مشكلة "أرْقمة" المشاعرِ ستقودنا لطريقين كليهما مهلك؛ أولهما أن كل ما هو قابل للترقيم قابل للتسليع، وكل ما هو قابل للتسليع قابل للقبول والرفض والعرض والطلب، تخيّل أن تخضع معانٍ مثل الود والرحمة والمروءة والبر للقبول أو الرفض!

ثاني الطريقين أن كل ما هو خاضع للحديث عنه بلغة الأرقام خاضع بالتبعية للتضخيم أو التقزيم، تخيَّل أن يُحدد معيارُ شهامة رجل، أو مقياسُ صبر امرأة بعدد المتفاعلين مع طريقة سرد حكايته أو انتشارها، أو أن يكون من المشاهير أو لا.

كثيراً ما يسرح عقلي في تصورٍ فانتازيٍّ مخيف عن مجتمع قادم سيُركّب فيه لكل فرد جهاز قياس للمشاعر، لن يكون المتحكم فيه بطبيعة الحال، بل سيكون مربوطاً بنظام تحكُّم شيطاني خفي مخبوء في قاع سحيق في الشبكة العنكبوتية، حتى ليصبح الإنسان مع الوقت سلعةً يشتريها الشعور، أو عملةً تتاجر بها وسائل التواصل مع بعضها.

– أريد ثلاثة كيلوات من الحزن، وكيلويْن من الغضب، وأربعةً من الحنين!

– حسناً! الثمن ستة أفراد بماكينات شعور جديدة.

– معي عريس حضر زفافه.

– حسناً! أضفْ عليه أباً أطعم طفله الوحيد، وحلال عليك.

ألَا فلْيَرْحمنا الله ولا نلحق زمناً نُباع فيه أو نُكهّن أو نمنح فوق بيعة، ويبقى السؤال: قبل أن تُقدَّر باللايكات.. كيف كان يُعبِّر الناس عن مشاعرهم؟

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد إبراهيم إسماعيل
صيدلاني وكاتب روائي
صيدلاني ولي ثلاثُ رواياتٍ، منها اثنتان مطبوعتان بعنواني "سرباز" و"أبو جامع"، ورواية منشورة إلكترونياً بعنوان "مدينة العتمة"، بالإضافة لبعض المساهمات الأدبية المختلفة في الشعر والمقال والقصة والخاطرة. اهتماماتي تنصَبُّ في كلِّ ما له علاقةٌ بالأدبِ العربيِّ، خاصةً التراثي منه، ثم تليه كتاباتُ العصرِ الحديثِ في القرن العشرين حتى منتصفه، خاصةً المتعلقة بفن المقال وروَّاده الرافعي وأحمد حسن الزيات وأحمد أمين والمنفلوطي والعقاد.
تحميل المزيد