"الحب الحقيقي" منذ طفولتي كانت وما زالت أغنيتي المفضلة، كان عمري خمس سنوات حين أذيعت لأول مرة، أحببتها جداً، أو بصورة أدق أحببت المكان الأخضر الذي كان يجري فيه الأطفال بكليب الأغنية، والطائرة والبالونات التي كانت معهم، كنت أحفظها وأرددها دوماً، رغم أني بالتأكيد لم أكن أفهم معانيها، وكنت دائماً أطلب من أمي أن تأخذني لهذا المكان، وكان جوابها دوماً "هاي مش هون هاي بمصر"، فأقول "يعني وين؟ فترد "بعيد"، مع الوقت كففت عن الطلب، لكن بقيت رغبتي في الذهاب لهذا المكان الأخضر الذي صوره لي خيال الطفولة بالجنة، بما سمعته من وصف لها بداخلي.
ما زلت أذكر في السادسة من عمري حين ناداني ابن عم لي، وهو يقف بشرفة منزلهم، وكنت عائدة للبيت بعد أن رميت القمامة، وقال لي: "عائشة.. مصر أم الدنيا"، نظرت له وصعدت للبيت، سألت أمي لماذا يقولون مصر أم الدنيا، فأجابتني لأنها أكبر بلد، كانت بالنسبة لي إجابة مقنعة حينها، فلست مطلعة على تاريخ ولا جغرافيا بعد، اكتفيت بها وانتهى الأمر.
خذنا على مصر
بعدها بسنوات قليلة سمعت أمي تقول لأبي "خذنا على مصر"، وأجابها "لما يموت حسني مبارك"، وبذات الفترة ذهب جدي وجدتي لمصر، وحين رأيت صورهما بها اشتعلت بقلبي ذات الرغبة التي كانت تتوق للذهاب لذاك المكان الأخضر، لكن هذه المرة لرؤية الأهرامات، ومن التلفاز أيضاً تشكلت بذهني صورة وردية لهذا المكان، خُزّنت بذاكرتي لسنوات طويلة.
كبرت وعرفت أن مصر ليست أكبر بلد في الدنيا، ورغم ذلك تصر على أن تكون أم الدنيا، وحين اطلعت على التاريخ والجغرافيا أدركت أنه لا يليق بها سوى هذا الدور.
كبرت وفهمت كلمات أغنيتي المفضلة، وفهمت لماذا كان أبي يرفض الذهاب إلى مصر، ذاك المكان الذي استوقفني عدة مرات، ورسمت له صورة من الجنة بذهني، وأصبحت أنا أيضاً مثل أبي، لا أريد الذهاب إليها حالياً، مع أن مبارك مجرد عرَض من أعراض المرض فقط وليس هو المعضلة.
وسقط حسني مبارك
واستمر هذا حتى لحظة التغيير الذي كنت أنتظره ولا أعلم هيئته، وأتانا ذلك التغيير ذات صباح وتربع على عرش ميدان التحرير، وسمّيناه ثورة، لأنه بفعله يتحدى عرش الديكتاتور وينازعه الحكم، وينقل العرش من القصر إلى وسط البلد بأعظم مشاهد هذا العصر، ويصرف نظري عن المكان الأخضر والأهرامات، ويجعل هذا المشهد هو غايتي الجديدة للذهاب إلى مصر، حيث جعلها جنة بحق، بعد أن لفظت أسوأ ما فيها إلى مزبلة التاريخ، لتعود ورديةً كما عرفتها أنا حين رميت القمامة، كنت حينها، والآن مجدداً، لا أريد الذهاب حتى تصبح مصر كالتي في خاطري، أرى الجنة التي رسمتها بخيالي ولا أريد لشيء أن يغيرها، وهي بحق جنة دنيوية يعلوها غبار أسود ثقيل ستنقشع الغمائم التي أتت به في يوم ليس ببعيد، فهي الوطن الذي ذابت فيه كل الحضارات، وتمصرت حين أتته مرغمة حيناً، وحباً حيناً، وحين رحل من رحل عنها رحل وحدَه وبقيت مصر، مصر التي تشم وترى فيها رائحة تاريخ طويل، وحقباً وأمماً مختلفة، لكنها أبداً لا تطغى على الرائحة والشكل الأصلي لها، ولا غريب في الأمر، فهي بروحها تُضفي على كل شيء طعماً ولوناً ورائحة، وإن عكّر طعمها أحياناً وفسدت رائحتها لا بد أن تعود لأصلها، فمع كل مآسيها لا تفهم سر احتفاظها بفكاهة روحها، ومع كل العبث بكل ما هو أصلي فيها لطمسه، بمجرد السير فيها، بل وحتى من خلال صور لها ستعرف هويتها، وتدرك ما الأصلي فيها وما الدخيل عليها.
لماذا "أم الدنيا"؟
وأبداً لا تفهم إصرارها على أن تكون أم الدنيا رغم شقاء هذا الدور، ولا تبرحه سوى أن الأم وإن تعبت وأعياها المرض تحاول لآخر لحظة أن تقوم بدورها، كذلك هي مصر الخوف يعشش في جدران سجنها، وصوتها مكتوم، وقلبها ملتاع مكلوم، ونبضها مسجون، وروحها رهن الاعتقال، ومحاولة التشويش على عقلها جارية بإصرار بشع، بالإضافة إلى تعطيل أطرافها لشلّها عن القدرة على الحركة، لكنها لا تتنازل عن أمومتها، ونحن الصغار جداً ما زلنا بحاجة لها، نقف ننظر إليها كمن ينظر لعزيزٍ من خلف زجاج العناية المشددة، ونستحلفها بالله، ونرجوها أن تصمد أمام مرضها وتقاومه لنستعيد عافيتنا جميعاً.
يقال إن كل لغات العالم لا توفي الأم حقها، ويبقى فضلها سابقاً، فكيف حين يكون الكلام عن الأم الكبيرة؟! أظن أننا نحتاج لاختراع أبجدية جديدة لن توفيها حقها أيضاً، لكن علها تصلها رغبتنا المشتعلة بالمحاولة للوصول لقدر أكبر من الثناء والاعتراف بجميلها وجمالها، وفضل ما صنعت.
مهما حاولنا الانفراد بشخصياتنا ورفضنا أن نشبه أمهاتنا، فإننا لا شعورياً سنشبههن بأشياء كثيرة، سيبقى شيء منهن مقترناً بأرواحنا، سنقلد طريقتهن في الكلام، وسنفرح حين يُشبهنا أحدٌ بهن، وستكون لنا كشهادة على حسن أمومتنا.
وكلما كان تقليدهن أدق -رغم أننا أقسمنا على الاختلاف عنهن- سنحبهن أكثر كلما كبرنا وفهمنا معنى الأمومة، وسندرك كم نحن بعضٌ منهن مهما ابتعدنا، سنبقى ندور في أفلاكهن، ونختلس النظر ونكمل الحياة بما ذاب منهن فينا، وما بين الفينة والفينة ينتفض أحد الأبناء ويرفض تكرار أخطاء مصر، ويصرح بذلك بكل الوسائل، أقول إن هذا من أشد ما يسعد كل أم أن يختصر أبناؤها تعباً وألماً بتعلمهم من أخطائها، والأجمل نصحها هي لهم وقد أعياها التعب، كما أن الحكمة ضالة المؤمن، أنّى وجدها فعليه بها، وحين يبتعدون عن الخطأ لا يكون ذلك بحكمة تامة منهم، بل بفضل منها، فلولاها ما عرفوا الخطأ أصلاً ليتجنبوه، وإن تجنبوه فلن يكون الطريق مفروشاً بالزهور، لكن قدر مصر أن تكون رأس الحربة بمعركة طحن الظلم، لأنك إن أردت أن تهدم البيت والمجتمع فتدمير دور الأم مفتاح كل ذلك، وفي قتل القلب إنهاء للجسد.
مصر ثائرةً
لهذا كله تبقى مصر أم الدنيا، وثورتها هي أم الثورات وعظمة البدايات، ومَن بعظمته سيكتب فخر النهايات وعزنا جميعاً، وما بينهما ما زالت تبني الجسور. صحيح أن بزوغ الفجر بدأ من تونس، لكن الشمس ما سطعت وأنارت إلا حين وصلت مصر، حين ثارت تونس كانت كضربة كهرباء بجسد الأمة المتعب، لكن حين ثارت مصر استعادت الأمة نبضها، وضخت بها دماء جديدة جعلتها تضج بالحيوية والحياة، لذلك فهي دائماً صانعة الفارق إيجاباً أو سلباً، وهي مضخة القلب التي تنعش كل أوردة الجسد وشرايينه، لكن الأطباء أخطأوا أو لم يعطوا العلاج حقه، وعدنا للحالة الشديدة من ضعف عضلة القلب، وهذا لا يعني النهاية، لكنه بالتأكيد يعني لزوم مهارة الأطباء من جديد والتفكير بطرق تخلص الجسد من ضعف قلبه ليستعيد الحياة، وها نحن نقف على أعتاب الجراحين نستصرخ فيهم حكمتهم، نرجوهم حتى لو كان الحل الوحيد إحداث معجزة، ونعرف أن العلاج طريق ألم يؤرخ بالدم ونزيف الروح، لكن نهايته نور، وعزاؤنا أن الدم المسكوب، وحتى المسفوك إجباراً، وذنبه أنه مجاور لجزء نضطر لجرحه لن يذهب سدى، بل سيكون حافزاً لإنتاج دم جديد، ومصباح ينير عتمة المسير، والأمل الزاد المعين على طول الطريق، كما أن الأم هي أم الصعاب والمهام الخيالية، فحملت على كاهلها مهمة مداواتنا جميعاً.
العودة المنتظرة
الثورةُ نورٌ لم يرحل عنا، ووهج لن ينطفئ بداخلنا وإن داهمته غربان الليل الأسود، فهم وإن فردوا كل أجنحتهمليحجبوا نور الشمس ستطلع الشمس وتحرقهم. أجل، سواد أجنحتهم حد من سطوع شمسنا قليلاً، لكنها وقت ذروتها ستردّ الصاع بالقاضية، وتنهيهم إلى الأبد، لأنهم لم يطفئوا قرصها الملتهب في قلوبنا، الذي لامس القلبَ صباح ثورة فتعلّق بشغافه ولم يبرحه، وخشع القلب لحضوره، وغاب عن ناظرنا قليلاً، لكن معلوم أن الغائب عن العين أقرب الناس للقلب وأكثر ما يطاله حديث المحب.
إنها الغائبة مؤقتاً الحاضرة دائماً، المشتاق لها سراً وجهراً، ووصلها المنشود أبداً، ولا أغلى من حبيب خضت في سبيل وصله الحروب، وسرت إليه حتى كادت تقتلك المهالك، فضِعت، وتاهت بك الدروب، ونزلت بك كل أصناف الخطوب، وأدميت وعذبت حتى استعذبت العذاب ما دام فيه خطوة إليه تخطوها، وأنت ترى نور الوصال يلوح في الأفق فتركض إليه رغم الجراح، وجراحك ضريبة حبك الملزم دفعها، فلا حب ولا ثورة ولا وطن يقدمون طعاماً لذة للآكلين والشاربين، والوصول للجنة يحتاج صدق السعي بحب حقيقي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.