لحظة انتظرتها منذ عام كامل بدون مبالغة، كل من يعرفني جيداً يعلم مدى أهمية لحظة تلقي اللقاح بالنسبة لي، من فرط الحماس والتفكير ربما لم أتمكن من النوم في ذلك اليوم، وبمجرد تسلل خيوط النهار قمت كي أستعد للذهاب عساني بذلك أحرق فوارغ الوقت التي تفصلني عن تلك اللحظة المنتظرة.
أخيراً ها أنا قد وصلت، فردٌ من أمن المستشفى ينظر إليّ بترقب في انتظار أن أدخل حتى يقوم بعمله ويسألني إلى أين أنا ذاهب، لم أعطه فرصة السؤال وسبقته سائلاً "لقاحات كورونا منين لو سمحت؟"، نظر لي نظرة واثقة مشفقة على جهلي قائلاً: "تقصد المصل؟ ادخل آخر الطرقة يمين"، لم أكترث كثيراً إلى ذلك كي لا أعكر صفو اليوم المنتظر.
الابتسامة المترقِّبة لم تفارق وجهي حتى رأيت بعيني بداية الطرقة المذكورة على لسان فرد الأمن، ربما يمكنني الآن تصور كيف أننا لن نقدر على تحمل أهوال يوم الحشر، فكرت كثيراً أن أعود من حيث أتيت، إذ إن تلك الطرقة وحدها كفيلة بأن تفسد مجهود حرص السنة كاملاً، ولكن صوتاً بداخلي قال لي: الذي جعلك تحرص سنة كاملة أو أكثر قادر أن يحرسك خلال تلك المغامرة القصيرة أيضاً.
كتمت أنفاسي كالذي يهرب من رائحة كريهة وليس عدوى فيروسية، ولكن كان ذلك كل ما يمكن أن أقدمه زيادة عن حرصي المعتاد، وددت في تلك اللحظات القصيرة وأنا في طريق العبور لو أنني أملك موهبة تصوير الفيديو، ربما كنت أصنع وثائقياً بعنوان "كيف تحصل على الفيروس واللقاح في يومٍ واحد؟".
على أي حال أخيراً قد وصلت إلى آخر الطرقة، ونظرت خلفي نظرة المنتصر المتحدي العابر قبل أن أنحني إلى اليمين وأفاجأ أنني لم أصل بعد، وجدت فرد أمن آخر قبل أن أسأل يخبرني بنفس الذي أخبرني به زميله في الخارج "آخر الطرقة يمين"!
نظرت أمامي حيثما أشار لأجد طرقة أكثر طولاً واكتظاظاً من تلك التي لم أمكث وعبرتها، فكرت جدياً في تلك اللحظة أن أعود، ولكن كعادة أزمات المنتصف دائماً استخسرت ضياع مجهود الطرقة التي قبلها دون أن يكلل في النهاية بالنجاح.
أثناء العبور الثاني مشاهد لعيادات تفوح منها رائحة الكشري أثناء الفطور الجماعي، وعيادات أخرى أبخرة التبغ هي التي تفوح منها، وأخيراً ها أنا قد وصلت، من حسن الحظ رغم كل ذلك الزحام في المكان لم يسبقني في الحضور لتلقي اللقاح سوى أعداد بسيطة، أتت الساعة التاسعة وانتظرت أن تبدأ الأدوار حتى أفر هارباً من هذا المكان، ولكن خرجت "مس م" الرأس الكبرى في قطاع الممرضات لتبلغنا أن السيستم واقع وأنه علينا الانتظار.
مرت الثواني والدقائق وبدأت الأعداد تتزايد حتى أتم عقرب الدقائق لفة كاملة وما زلنا في الانتظار، وأثناء الانتظار أتت مكالمة لـ"مس م" من رجل لا أعلم هويته كانت تصف له المكان: "أيوة يا أستاذ شفتك أهو مش انت اللي لابس قميص نبيتشي؟ أيوة يا أستاذ بقولك قدامك أهو أطلع أجيبك ولا إيه؟ مالك كده؟".
ووصل أخيراً الأستاذ صاحب القميص النبيتي، وعرفت بعدها أنه رجل ليبي الجنسية يود الحصول على مسحة السفر للعودة إلى بلده، وعرفت أنه قادم من طرف أستاذ أدهم "ملك الخوازيق" على حد تعبير "مِس م" التي أصرت على أن تكرم ضيفها الخائف منها ومن كورونا ومن الزحام، ولكنها صممت أن يشرب معها الشاي في تلك الغرفة الضيقة في كوب من الأكواب التي تجزع نفسك عن استخدامها في الأوقات العادية حتى وإن لم نكن في فترة وباء عالمي، مما دفعه أن يتصل بأستاذ أدهم كي ينقذه من تلك العزومة القاتلة ويجعل "مس م" تتركه لوجه الله. وبالفعل أخذت "مس م" الهاتف من صاحب القميص النبيتي وتحدثت إلى الأستاذ أدهم بادئة حديثها: "أهلاً بملك الخوازيق"، واستجابت في النهاية لرغبة الرجل المسكين المغلوب على أمره.
الآن دوري يقترب، ملأت ورقة استمارة لقاح كورونا وكان من ضمن الأسئلة هل شعرت بأي أعراض مرضية كالسعال اليوم أو خلال الـ10 أيام الماضية؟
ربما لم أكن أشعر بأي شيء قط، ولكنني وددت كتابة أنني حتماً سوف أشعر خلال الساعات القليلة القادمة بعد كل ما قابلته في ذلك المكان الموبوء، تذكرت داخل عقلي حلقة سين من برنامج أستاذ أحمد الشقيري التي كان موضوعها عن كيفية مواجهة السعودية لأزمة كورونا، وآليات تطبيق التكنولوجيا لمواجهة الأزمة، وكيف كان شكل المكان الذي تلقى فيه اللقاح دون لحظة كلل أو انتظار، وعلى الجانب الآخر تأملت منظر الثلاجة الكريازي الـ12 قدماً التي أخرجت منها الممرضة جرعة اللقاح التي سأتلقاها بعد قليل.
على أي حال لقد حان الوقت، لم أسلم من المواجهة المباشرة مع مِس أماني التي كانت تعطي اللقاحات بنفسها، أتى دوري وجلست على الكرسي في ترقب وصمت تام، وأخبرتني أن أجهز ذراعي الأيسر فلم أكن أعلم كيف أجهزه لأنني أرتدي رداءً كمه قصير من الأساس، فوجدتها تصرخ بمنتهى الحدة كما فعلت مع صاحب القميص النبيتي: "شمر الكم يا حبيبي ولا انت مستني أشمرهولك؟ مالك كده؟".
استجبت لرغبة مس أماني في صمت تام، لا لأي شيء سوى لرغبتي في الهروب بأسرع وقت ممكن، كل شيء انتهى الآن واللحظة التي انتظرتها طويلاً ها هي قد تحققت. وأخذت أركض إلى الخارج من خلال الطرقات التي أتيت منها في بداية اليوم، كل ركن فيها كان يذكرني بمشهد لا أستطيع نسيانه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.