من بضعة أسابيع كانت أعداد الإصابات منحسرة نسبياً، وكان ذلك متزامناً مع موعد مناقشة مشروع تخرّج أحد رفاق الدرب، لحظة لا يمكن التخلي عن حضورها بسهولة. ارتديت قناع الوجه وأخذت مطهر اليدين ووقفت على مسافة آمنة من جميع الحضور الذين كانوا ينظرون نحوي نظرة الدخيل الغريب أو العميل الخائن، لكوني الوحيد بينهم الملتزم بهذه البدعة. بعد تناولي الطعام سمعت أحد الحضور يتحدث عن وجود شخصين مصابين معنا هنا في القاعة، نظرت حولي -ودون مبالغة- لم أجد غيري يرتدي الكمامة، فطمأنت نفسي باستحالة سكوت كل هؤلاء الحضور عن تلك الكارثة في حال وجودها!
كان ذلك تحديداً قبل أن أفرّ هارباً من ذلك المكان لأعزل نفسي بعد معرفتي أن الطعام الذي تناولته منذ قليل كان من صنع هذين المصابين وأن وجودهما ضمن الحضور لم يكن أكذوبة، بل إنهم جميعاً كانوا على علم بذلك كله دون أي مبالاة بحجة "ده يوم بييجي مرة واحدة في العمر".
وكما نعلم وكما تروج جميع الإعلانات على الشاشات، وعلى صفحات الإنترنت التي تشاهدها وتتأثر بها جموع الملايين، أن "رمضان يحب اللمة"، ومع عدم رؤية إعلان واحد على الشاشة يلعب دوراً توعوياً للحد من التجمعات أو العزومات أو ارتداء الكمامات أو أي شيء، كان أمراً بديهياً أن يحدث ما حدث.
الأصدقاء في العمل أشاروا إلى أنه لا يصح أن يمر رمضان دون أن نفطر معاً، وبالفعل أفطرنا معاً وبعد يومين وجدنا زميلين غائبين، الأول لفقدانه حاسة الشم والثاني لشعوره بتكسير في الجسم وارتفاع درجة الحرارة ووجود سعال جاف مع تأكيد كليهما "إن دي مش كورونا".
الموقف الأخير، أثناء قضاء بعض المشاوير المهمة قابلت صديقاً لم أقابله منذ فترة مرتدياً كمامتي وحاملاً المعقم في يدي، ولا توجد علامات أوضح من ذلك على أنني لن أسلم سلاماً حاراً بسبب الظروف الوبائية، ولكنه كان مسلم الأمر وعاقد النية لأخذي بالحضن، فصددته دون أي إحراج أو تفكير لإيماني بخطورة الموقف، فوجدته بنظرة مملوءة بالجدية والترقب والقلق على صديقه يسألني:
"هو أنت تعبان؟"
للحظة تشككت في حقيقة وجودي وفي سلامة قواي العقلية التي يمكن أن تكون قد صورت لي أشياء لا وجود لها سوى في مخيلتي كل هذه الفترة، حتى مرّ في نفس اللحظة أمامي شخص يرتدي كمامةً فاطمأن قلبي.
بعيداً عن تلك الكوميديا السوداء، أعزائي نحن الآن على أعتاب منعطف وبائي في غاية الخطورة، وزيرة الصحة صرّحت بأن أعداد الإصابات في مصر هذه الفترة أكثر 5 أضعاف من أعداد الإصابات في نفس الفترة منذ عام، مع العلم أننا منذ عام في فترة مثل هذه كنا في قمة التزامنا وخوفنا من المرض وكنا جميعاً نلتزم بيوتنا إما خوفاً أو بالإجبار.
لا أعلم هل انكسرت الرهبة مع مرور الوقت؟ أم أن رصيد الصبر قد نفد داخلنا بداعي الكبت؟ ولكن حتى وإن تحقق السببان الأول والثاني، هل طبيعتنا البشرية ضعيفة لهذه الدرجة؟ هل طبيعتنا البشرية أضعف من أن تجعلنا نتحكم في أنفسنا لو التزمت الجهات المسؤولة الصمت؟
فإن كانت الوحشة سبب، فأن تكون مؤقتة أهون من أن تكون دائمة، وإن كانت العزلة سبباً، فأن تكون سالماً أسلم من أن تكون معتلاً، وإن كان الفقد سبباً، فأن يكون يوماً أو شهراً أو سنة أفضل من أن يكون أبداً.
صدقاً أصعب شيء في هذه الأيام ليس الموت، فهو صعب في كل وقت لكنه حق آت لا محالة، ولكن الأصعب حقاً هو الفراق، فقد صار الموت يأتي دون إعطاء الحق في نظرة أخيرة تليق بقدر ما سيأخذ، ويرحل دون إعطاء الوقت لوداع طويل يخفف من ألم ما سيترك.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.