"الألم هو نقيض المتعة" جملة قد تسمعها واعتقاد قد يكون يدور ببالك في الكثير من الأحيان، فكيف للألم والسرور أن يجتمعا أو أن يصاحب أحدهما الآخر ويكون سبباً له؟! حتى إنه في التجارب السلوكية، يستخدم الألم كأداة تعليمية لإظهار "ما لا يجب" على الإنسان فعله وكيف يمكن له أن يتجنبه، أما المتعة فتستخدم لتشجيع الإنسان على القيام بسلوك معين يُشعره بالسعادة والراحة.
لكن الاعتقاد بأن الألم شعور سيئ، والسرور شعور جيد هو أبعد ما يكون عن الحقيقة. لو فكرت جيداً ستجد أن الكثير من الناس يحبون الشعور بالحرق الذي ينتج أثناء التمرين القاسي، وإلى حد كبير يسعد الجميع عندما تشرف عضلاتهم على الانسحاق في جلسة تدليك احترافية.
يمثل الطعام الحار فسيفساء مثيرة للاهتمام بشكل خاص من المتعة والألم. يستمد الكثير منا المتعة ليس فقط من طعم الطعام الحار، ولكن من الإحساس بالحرقان على ألسنتنا وشفاهنا. حتى إن البعض منا يحب أن يتحدى تحمله للتوابل لدرجة التعرق واللهاث من أجل التنفس.
لماذا إذاً يحب البعض هذا الألم الذي قد يصل لدرجة البكاء واللهاث ويشعرون بسعادة خاصة بسببه؟ هل السبب الجينات أم البيئة أم كلاهما؟ وهل التجربة تساعد على تقبلنا للطعام الحار لدرجة استمتاعنا به؟ لنتعرف أكثر على ذلك في هذا التقرير.
لماذا نحب "مذاق الألم"؟
هناك العديد من النظريات المتنافسة حول كيفية تطوير الإنسان لمذاق الألم. الأولى هي أننا ببساطة نتمتع بإثارة ذلك الشعور. يقول الدكتور بول روزين، أستاذ علم النفس في جامعة بنسلفانيا، في أحد أبحاثه، إن الناس يستخدمون الأطعمة الغنية بالتوابل كنوع من "المخاطر المقيدة" أو "الماسوشية الحميدة".
يؤدي تناول الأطعمة الغنية بالتوابل إلى استجابة دفاعية معتدلة فينا ترتفع نتيجتها معدلات ضربات القلب، ويزداد تنفسنا، ويبدأ الأدرينالين في التدفق؛ نشعر بأننا على قيد الحياة. إنه نفس سلوك البحث عن الإثارة الذي يتولد عند القفز بالحبال ومشاهدة أفلام الرعب. إن إثارة الألم تجدد شبابنا، بينما نعلم سراً أن كل شيء سيكون جيداً في النهاية.
قال الدكتور روزين في مقابلة لصحيفة نيويورك تايمز: "وحدهم البشر من بين الكائنات يستمتعون بالأحداث السلبية بالفطرة، والتي تنتج مشاعر أو أحاسيس نحن مبرمجون على تجنبها، عندما يدركون أنها في الواقع ليست تهديدات". "العقل فوق الجسد. قد يعتقد جسدي أنني في مشكلة، لكنني أعرف أنني لست كذلك".
دعم إضافي لنظرية روزين هو أن جميع الثدييات الأخرى تتجنب الأطعمة الحارة والمؤلمة. في الواقع، هناك نوع واحد فقط من الثدييات الأخرى التي قد تتقبل الفلفل: وهي الزبابة الصينية. لكن هذا الحيوان طوَّر مستقبلات طعم تجعله أقل حساسية للكابسيسين (المادة الرئيسية التي تعطي الفلفل الطعم الحار)، وبالتالي لا تستمتع بتناولها كما نفعل نحن، وفقاً لموقع National Geographic. وهذا ما يدفعنا للتساؤل أكثر عن دور الجينات البشرية والطبيعة والبيئة في خلق هذا الشعور الغريب من المتعة والألم.
الطبيعة مقابل التنشئة
إن الجينات والبيئات على الرغم من اختلافها في نواحٍ كثيرة، هي خيوط متشابكة تشكل الفرد. والسؤال عما إذا كان حبنا للطعام الحار ناتجاً عن الجينات أو البيئة ليس استثناء عن ارتباطهما. فبينما قد يكون لدينا استعداد وراثي لحب الأطعمة الحارة، فإننا لا نولد لدينا هذا الحب أبداً، من الصعب أن تجد عائلة بأكملها تحب الطعام الحار بنفس الدرجة بالرغم من امتلاكها الجينات نفسها!
وجدت إحدى الدراسات التي تفحص الشخصية أن سمة "البحث عن الإحساس القوي" التي تتأثر بشدة وراثياً مرتبطة بتفضيل الطعام الحار؛ لذا فإن الأشخاص الذين يحبون الأفلام المخيفة، والقفز بالمظلات، والعمل تحت الضغط، والوقوف على حافة منحدر، والغطس (من بين أشياء أخرى) هم أكثر عرضة للاستمتاع بالطعام الحار. بينما يؤكد آخرون أن هذا التأثير ليس قوياً في إنتاج الرغبة في تناول الطعام الحار مثل التعرض المتكرر للتوابل.
هذه الحجج ليست متعارضة في الحقيقة، بل على العكس مرتبطة بعمق. ألن يكون الشخص المهيَّأ وراثياً للبحث عن تجارب جديدة ومثيرة أكثر عرضة لتناول الأطعمة الحارة؟ ألن ينتج عن هذا الميل تحمل أكبر للبهارات الحارة مع مرور الوقت، مما يدفعهم إلى تناول طعام حار أكثر؟
في الواقع، الجينات وجوانب الحياة الثقافية والبيئية والتجريبية تؤثر جميعها على درجة تمتع أي شخص منا بالتوابل الحارة.
الثقافة والبيئة
لماذا تبتكر بعض الثقافات وتستمتع بالأطباق الحارة والبعض الآخر لا؟ هنا يمكننا أن نشير أولاً إلى العوامل المناخية والبيئية، مثل القدرة على زراعة الفلفل الحار على قطعة أرض معينة، مما قد يؤدي إلى أن يصبح عنصراً أساسياً في النظام الغذائي المحلي. ليس من قبيل المصادفة أن أماكن مثل المكسيك هي بؤر للأطعمة المحتوية على الفلفل الحار حيث نشأت وحيث تمت زراعتها لأكثر من 5000 عام، في حين أن أنواع الفلفل كلها غائبة عن المأكولات التقليدية في أماكن مثل الغرب الأوسط للولايات المتحدة، حيث لا تنمو بشكل طبيعي.
يجب أن نكون مدركين أيضاً للحوادث التاريخية التي أدت إلى زرع الأطعمة الحارة في ثقافة معينة. وقد لوحظ هذا كعامل الآن في الأماكن الغنية بالفلفل الحار مثل تايلاند، حيث تم استيراد أنواع الفلفل بعد وقت قصير من وصولها إلى أوروبا، وذلك بفضل المستكشفين في زمن كولومبوس، وفقاً لموقع Research Gate.
هناك تأثير آخر وهو القيم الثقافية التي قد تبدو للوهلة الأولى غير مرتبطة بما يأكله الناس. وتشمل هذه القوة والقدرة على التحمل والرجولة، والتي يمكن أن تدل على قدرة المرء على تحمل هذا التنوع من الألم الذاتي. هذه السمات الذكورية النمطية، رغم أنها ربما تكون الأكثر شيوعاً، ليست القيم الثقافية الوحيدة التي يمكن للمرء أن يظهرها من خلال تناول الطعام الحار.
اليوم، يمكن رؤية الكثير من المتنافسين على منصة Youtube، حيث يأكلون كمية كبيرة من الفلفل الحار جداً. في هذا السياق ، يبدو أن الفكاهة (وليس القوة أو الرجولية) هي الهدف، لكن المتنافسين يتطلعون أيضاً للحصول على الاهتمام والشهرة الإنترنت وربما المال من خلال هذه التحديات.
التجربة تساعد على "تقبل" النكهة الحارة
العامل الآخر لتفضيل الفرد للطعام الحار هو التجربة. بعد كل شيء، حتى في العائلة الواحدة التي لها نفس الجينات وتعيش في البيئة نفسها، فإن تفضيل الطعام الحار متغير بدرجة كبيرة.
تدعم الأدلة العلمية فكرة أنه إذا كنت تأكل المزيد من الأطعمة الغنية بالتوابل، في حين أنك قد لا تستمتع بها في حد ذاتها، فسوف تعاني من درجة أقل من الألم مع مرور الوقت. وبالتالي ستصبح أكثر تسامحاً مع الأحاسيس المؤلمة الحارقة وكل لقاء لاحق مع طعام حار سيكون بعيداً قليلاً عن الألم وأقرب إلى المتعة؛ لذلك إذا كان الطعام الحار عنصراً أساسياً في الأسرة أو الثقافة التي نشأت فيها، فمن المحتمل أن تكون أكثر تسامحاً لطعمه من شخص آخر نشأ في عائلة وبيئة لا تأكل الطعام الحار وليس عنصراً في ثقافتها.
العلاقة بين الطعام الحار وصحة الإنسان النفسية والجسدية
عندما يضرب الكابسيسين -المادة الكيميائية الموجودة في الأطعمة الحارة- لسانك، فإن جسمك يسجل الإحساس على أنه ألم. يؤدي هذا بدوره إلى إطلاق مادة الإندورفين، والمعروفة باسم المواد الكيميائية "السعيدة" التي تمنحك شعوراً فورياً بالمتعة من الرأس إلى القدمين، وفقاً لموقع Everyday health.
هناك فوائد صحية أخرى مرتبطة بتناول كميات صغيرة من الكابسيسين. يمكن أن تشمل هذه: الحماية من حصوات المرارة، والنشاط المضاد للأكسدة، والتأثيرات المضادة للالتهابات، وزيادة نسبة الكوليسترول الجيد. كل هذه الأسباب تقدم سبباً ربما غير واعٍ لتفضيل الطعام الحار.