تأثير مانديلا: لماذا يتذكر الناس أشياء لم تحدث من الأصل؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/01/10 الساعة 10:29 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/07/30 الساعة 12:36 بتوقيت غرينتش
"تأثير مانديلا" أخذت اسمها من الرئيس الجنوب إفريقي نيلسون مانديلا - iStock

في عام 2009، وقفت باحثة لإلقاء كلمتها بمؤتمر علمي، وتحدثت عن تأثرها الشديد بمشهد تشييع الزعيم الجنوب إفريقي نيلسون مانديلا، وأنها لا تزال تتذكر مشاهد البكاء والحزن، الغريب لم يكن أن مانديلا كان لا يزال حياً ومات بعد ذلك المؤتمر بـ4 سنوات، لكن الغريب حقاً أن عدداً من حضور المؤتمر شاركوها هذه الذكرى الزائفة، وروى كل منهم جانباً من المشاهد التي لا يزال يذكرها عن جنازة زعيم الحقوق المدنية.

ومنذ هذا الحدث المثير للاستغراب، بدأ الباحثون تسمية الذاكرة الجمعية الزائفة باسم "تأثير مانديلا"، لوصف الذكريات التي تتشاركها أعداد كبيرة من الناس رغم أنها لم تحدث، أو لم تحدث بالشكل الذي يتذكرونها به، وهو أمر أشبه بسوء تذكُّر جماعي. 

الباحثة التي نتحدث عنها هي فيونا بروم، وهي باحثة تصف نفسها بأنها مستشارة في ما وراء الطبيعة والأحداث الغريبة، ورصدت بموقفها هذا كيف أن الناس في أنحاء عديدة من العالم كانوا يظنون أن الزعيم الجنوب إفريقي نيلسون مانديلا مات بالسجن في الثمانينات. والحقيقة أنه خرج من السجن في 1990، وصار لاحقاً رئيساً للبلاد ومات في 2013 بسنّ الخامسة والتسعين.

مشاهد من جنازة نيلسون مانديلا في نهاية العام 2013

الظاهرة غريبة، وتفسير بروم لها أغرب، إذ رأت هذه الباحثة أنه في أي وقت هناك حقائق متعددة لكل كون، وداخل كل كون هناك تنويعات مختلفة من الأغراض والأحداث والأشخاص. لذا، فإن ذكريات هذه اللحظات المشتركة "غير الدقيقة" ليست ذكريات زائفة حقاً، بل مجرد تقاطع بين سبل الأكوان الموازية لوهلة. (نظرية الأكوان المتعددة نظرية متقدمة، بسبب مفاهيمها الفيزيائية المعقدة). لكن هناك تفسيرات أخرى لشرح كيفية حدوث تأثير مانديلا.

الباحثة في أحداث ما وراء الطبيعة فيونا بروم، التي سمت ظاهرة "تأثير مانديلا" 

كيف يحدث تأثير مانديلا؟

ذاكرة البشر لا يُعتمد عليها، خصوصاً في عصر التكنولوجيا الرقمية، فالقشرة الجبهية التي تُخزَّن بها الكثير من الذكريات لا تعمل بدقة وكفاءة أقراص التخزين. ويعتقد العلماء أن استعادة الذكريات والتذكر يُثيران ذكريات أخرى في الذهن أثناء العملية، لذلك يمزج بين سيناريوهات متنوعة وأشخاص مختلفين بطرق جديدة، وهذه "إعادة تثبيت" للمعلومات في أدمغتنا إن شئنا القول.

لتفصيلٍ أعمق، الموقع الفعلي للذاكرة في المخ يطلق عليه اسم "Engram" أو "تتبُّع الذاكرة". وحينما نحاول استرجاع الذكريات، يتم نقل "تتبُّع الذاكرة" من مواقع مؤقتة مثل الحصين إلى مواقع التخزين الدائمة في القشرة الأمامية.

عقلنا منظم ويحاول ترتيب الكم الهائل من المعلومات التي نتعرض لها، لذلك تخيل أنه مكتب رتبت فيه الملفات بنظام، حيث توضع كل مجموعة ملفات متشابهة في أحد أدراجه، لذلك عندما يحاول العقل استرجاع تفاصيل أمر ما، فإنه يفتح درج المكتب الذي يحوي الملفات المتشابهة تلك، ويبحث عن الملف المطلوب لما تحاول تذكُّره الآن، وعندما يدرك المخ أن بعض أوراق الملف المذكور ضاعت، يبدأ في خلق إطار لذكريات مماثلة من الملفات المشابهة، دون وعي أو تعمُّد للتضليل والكذب، لكن المعلومات المتشابهة تلك مخزنة، على مقربة بعضها من بعض، في إطار يعرف باسم "المخطط".

أحد الأدلة على ذلك ينبع من دراسة أُجريت عام 2016 حول الذاكرة الدلالية البشرية، وهي الذكريات طويلة الأمد للأفكار والمفاهيم الخالية من التفاصيل الشخصية، وفيها استخدم الباحثون التصوير الوظيفي بالرنين المغناطيسي؛ لإظهار أنه يتم تخزين كلمات مماثلة في المناطق المتجاورة من الدماغ، وحتى إنشاء "الخريطة الدلالية" للغة في القشرة البشرية. وأكدت دراسة حديثة أخرى أن آثار الذاكرة المشتركة منظَّمة بطرق مماثلة من فرد إلى آخر.

على الرغم من أننا قد نفكر في الذكريات باعتبارها معززة عند التذكر، فإن الحقيقة أكثر تعقيداً، وهي أن استرجاع الذاكرة يعيد تنشيط الخلايا العصبية، وهو ما يحفزها على تكوين اتصالات جديدة، بعد ذلك تصبح الدوائر المستقرة مستقرة مرة أخرى، وتتم "إعادة دمج" الذاكرة.

إعادة الدمج يمكن أن تعزز التعلم بمرور الوقت، من خلال تقوية الروابط العصبية والسماح بتكوين روابط جديدة، ولكن من الواضح أن تفكيك الذاكرة وإعادة تجميعها مرة أخرى يجعلان تلك الذاكرة عرضة لفقدانها الدقة.

كما أن البشر عرضة أيضاً لمفهوم التخريف، أي الخطأ أو سوء التفسير بخصوص الذكرى دون محاولة واعية للتضليل. ويقع التخريف حين يحاول العقل ملء فراغات الذكريات غير المكتملة. ربما يخلط المتحدث بين التجارب والمعلومات المتشابهة من أجل إكمال القصة في عقله بالتفاصيل والاستجابة العاطفية، ويتيقن من أن القصة حقيقية. وهذا السلوك يحدث بمستوى عالٍ مع الأشخاص الذين يعانون من المشاكل العصبية مثل الضرر الدماغي أو الألزهايمر، لكن يتعرض له الأصحاء أيضاً.

"تأثير مانديلا" قد يكون فردياً وجماعياً

هذا قد يفسر لماذا يتذكر شخص أمراً ما بتفاصيل غير دقيقة. لكن لماذا يسيء الكثير من الناس تذكُّر "الحقائق" نفسها؟ 

تشير كايتلين أمودت، المرشحة لنيل درجة الدكتوراه من جامعة كاليفورنيا لوس أنجلوس في مجال العلوم العصبية، إلى دراسة سيكولوجية نُشرت عام 2016، أظهرت أن 8% من الأشخاص اختاروا أليكساندر هاملتون على أنه كان رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية من قائمة من الأسماء، وقد كان معدل التعرف على اسم هاملتون أكبر بكثير من بعض الرؤساء الأمريكيين الفعليين مثل فرانكلين بيرس وتشستر آرثر.

ولنشرح الأمر أكثر، ففي مرحلة ما من تعليم الأمريكيين، يتعلم معظم الطلبة أن أليكساندر هاملتون كان أباً مؤسساً للولايات المتحدة، ومع ذلك، عندما حققت دراسة حول الذاكرة الخاطئة بشأن من يعرفهم معظم الأمريكيين كرؤساء للولايات المتحدة، كان من المرجح أن يختار هؤلاء الأشخاص هاملتون بشكل غير صحيح.

وشرحت أمودت لموقع HowStuffWorks تفسيرها ، قائلةً: "بسبب الارتباط السياقي المشترك، كوَّن العديد من الأشخاص ذكرى زائفة بأن هاملتون كان رئيساً للجمهورية". هاملتون كان أول وزير للمالية في الولايات المتحدة، لكن اسمه كان أشهر من بعض الرؤساء الأوائل للولايات المتحدة الذين شملهم الاستبيان، كما أن شخصيته وردت في مسرحيات شهيرة، لذلك فإن سياق الخطأ مفهوم نوعاً ما.

وأشارت أمودت أيضاً إلى قوة الإيحاء، إذ قالت: "القابلية للإيحاء هي الميل إلى تصديق ما يوحي الآخرون بأنه حقيقي. لهذا يُحظر على المحامين سؤال الشهود أسئلة تُفشي إلى إجابة بعينها".

وهذه النقطة، تقود إلى تفسير آخر لتأثير مانديلا، وهي "الإيحاء"، والميل إلى تصديق ما يوحي الآخرون بأنه حقيقي. فعندما يتم تقديم معلومات خاطئة، يمكن أن يؤدي ذلك إلى تقويض دقة ذاكرة موجودة بالفعل، هذا هو بالضبط السبب الذي يجعل المحامي يعترض في "محكمة قانونية" على "الأسئلة الرئيسية" التي تقترح إجابة محددة.

 أمثلة أخرى على ظاهرة "تأثير مانديلا"

إضافة إلى المثالين السابقين، هناك مثال آخر خضع للدراسة. إذ يتذكر بعض المشاهدين تفاصيل فيلم يُسمى Shazaam، لكن الحقيقة أنه لا يوجد إطلاقاً أي فيلم بهذا الاسم، ورغم ذلك يدّعي عديد منهم أنهم شاهدوه، بحيث يعتقدون أن هذا الفيلم كان من بطولة نجم الكوميديا سندباد Sinbad الذي يلعب دور الجني، وأن هذا الفيلم قد طُرح في عام 1990، ولكن لا يوجد أي أثر على وجود هذا الفيلم، كما أن الممثل سندباد بنفسه صرح لعدة مرات بأنه لم يلعب دور جني في فيلم قط.

مثال آخر على ظاهرة "تأثير مانديلا" دار حول فيلم Kazaam بسبب حديث البعض عن بطولة ممثل لم يشارك فيه

وتفسير الأمر يعود إلى أنه قد تمت استضافة سندباد عام 1994، حيث ارتدى ثياباً كبحّار قديم يمكن أن يُخلط بينه وبين لباس جِنيٍّ بسهولة. ومن المحتمل أيضاً أن يكون سبب سوء الفهم هذا هو فيلم Kazaam، الذي كان بطولة محترف كرة السلة "شاكيل أونيل" الذي لعب به دور جني. 

وفي عام 1997 تَشارك كل من شاكيل أونيل وسندباد بطولة فيلم Good Burger، الذي من المحتمل أنه قد ساعد في هذا الخلط. ومع ذلك، يدّعي كثيرون حتى اللحظة أنهم يتذكرون كلاً من Kazaam وShazaam كفيلمين مختلفين، وفق ما أورده موقع The Conversation.

لا يزال "تأثير مانديلا" يخضع للدراسة، ولا يزال العلماء يبحثون الأسباب والتأثيرات المختلفة التي تجعل الناس يتذكرون أحداثاً غير حقيقية. لهذا تحديداً، يجب أن نشكك في بعض ما يصوره عقلنا، فرغم ما قدمه العقل البشري للإنسانية من إنجازات عظيمة، فإنه يظل متهماً بالمراوغة وخداع صاحبه في بعض المرات.

تحميل المزيد