من أحد أكثر عوارض الإصابة بفيروس كورونا فقدان حاسة الشم؛ إنه العرض الأول لبعض المرض، وأحياناً يكون العرض الوحيد. غالباً ما يصاحبه عدم القدرة على التذوق، لكن يبدو أن الأمر أكثر خطورة من فقدانه عند الإصابة بنزلات الإنفلونزا أو البرد.
يستعيد معظم المصابين حاستي الشم والذوق بعد أن يتعافوا، عادة في غضون أسابيع. لكن في أقلية من المرضى، لم تعد حاسة الشم، ولا يستطيع الأطباء تحديد متى أو ما إذا كانت الحواس ستعود.
لا يعرف العلماء سوى القليل عن كيفية تسبب الفيروس في فقدان حاسة الشم أو كيفية علاجه. لكن الحالات تتراكم مع انتشار فيروس كورونا في جميع أنحاء العالم، ويخشى بعض الخبراء من أن الوباء قد يترك أعداداً كبيرة من الناس يعانون من فقدان دائم في حاستي الشم والذوق.
أطلق هذا الاحتمال تحدياً عاجلاً بين الباحثين لمعرفة المزيد حول سبب فقدان المرضى هاتين الحاستين الأساسيتين، وكيفية مساعدتهم.
بدوره قال الدكتور دولوريس مالاسبينا، أستاذ الطب النفسي وعلم الأعصاب وعلم الوراثة بمركز ماونت سيناي الطبي في نيويورك: "كثير من الناس يجرون أبحاثاً عن حاسة الشم منذ عقود ويحصلون على قليل من الاهتمام"، مضيفاً: "COVID يقلب هذا المجال رأساً على عقب".
ترتبط الرائحة ارتباطاً وثيقاً بكل من الذوق والشهية، وغالباً ما يسبب فقدان حاسة الشم الناس متعة الأكل، لكن الغياب المفاجئ قد يكون له تأثير عميق على الحالة المزاجية ونوعية الحياة.
وربطت الدراسات فقدان حاسة الشم بالعزلة الاجتماعية وانعدام التلذذ، وعدم القدرة على الشعور بالمتعة، فضلاً عن الشعور الغريب بالانفصال والعزلة.
وقال الأستاذ المساعد في علم الأعصاب بكلية الطب في جامعة هارفارد، سانديب روبرت داتا، إن الذكريات والعواطف مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالرائحة، ويلعب نظام حاسة الشم دوراً مهماً وإن كان غير معترف به إلى حد كبير، في الرفاهية العاطفية.
وأضاف لصحيفة Baltimore Sun: "ننظر إلى الحاستين على أنهما إحساس جمالي إضافي، ولكن عندما يُحرم شخص ما من حاسة الشم، فإن ذلك يغير الطريقة التي يدرك بها البيئة، يتراجع شعور الناس بالصحة والعافية، ويمكن أن يكون الأمر مزعجاً ومربكاً حقاً".
يصف العديد من الذين يعانون من الخسارة بأنها مزعجة للغاية، وحتى منهكة، خاصةً أنها غير مرئية للآخرين.
وقالت باميلا دالتون، التي تدرس ارتباط الرائحة بالإدراك والعاطفة بمركز مونيل كيميكال سبنسز في فيلادلفيا: "الرائحة ليست شيئاً نوليه كثيراً من الاهتمام إلى أن نفقد الإحساس بها".
تقول الدكتورة جينيفر سبنسر لقناة NBC الأمريكية، إن حاستها للشم تغيرت كلياً بعد تعافيها من الإصابة بفيروس كورونا.
وقالت إن بعض الأطعمة والروائح باتت سيئة جداً بالنسبة لذوقها مقارنة عما قبل الإصابة.
وقالت إن الروائح الجديدة التي بقيت تشتمُّها لنحو 6 أشهر، هي رائحة بعض المواد الكيمائية إلى جانب نكهة اللحم العفن، وأضافت أنها في إحدى المرات استطعمت قطعة من الجبن على أنها قطعة من الطبشور الكلسي.
وبالفعل، وجدت دراسة نُشرت في مجلة الطب الباطني، أن 86% من المرضى الذين يعانون من أشكال خفيفة من فيروس كورونا أصيبوا بفقدان حاستي التذوق والشم، مقارنة بـ4 إلى 7% ممن يعانون من حالات متوسطة إلى شديدة.
درس العلماء البريطانيون تجارب 9000 مريض بفيروس كوفيد -19، انضموا إلى مجموعة دعم على فيسبوك أنشأتها مجموعة AbScent الخيرية في الفترة ما بين 24 مارس/آذار و30 سبتمبر/أيلول من العام 2020.
قال العديد من المصابين، إنهم لم يفقدوا متعة تناول الطعام فحسب، ولكن أيضاً التواصل الاجتماعي، إذ أضعفت الخسارة روابطهم مع الآخرين، مما أثر على العلاقات الحميمة وجعلهم يشعرون بالعزلة، وحتى الانفصال عن الواقع.
وكتب أحد المشاركين: "أشعر بأنني غريب عن نفسي، إنها أيضاً نوع من الشعور بالوحدة، كأني فقدت جزءاً مني، حيث لم يعد بإمكاني شم وتجربة مشاعر الحياة الأساسية اليومية".
شمل البحث أكثر من 2500 مريض في فرنسا وبلجيكا وإيطاليا، واستعاد الغالبية حواسهم في غضون شهرين تقريباً.
أما سبب شيوع فقدان حاستي الشم والذوق بين الأشخاص المصابين بأشكالٍ أكثر اعتدالاً من فيروس كورونا، فلا يزال غير واضح.
وافترض مؤلفو الدراسة أن هؤلاء المرضى لديهم مستويات أعلى من بعض الأجسام المضادة التي قد تحد من انتشار الفيروس التاجي إلى الأنف.
فيروسات أخرى تسبب فقدان حاسة الشم
يمكن أن تتسبب فيروسات الزكام والإنفلونزا وحتى الحساسية السيئة في احتقان الأنف الذي يجعل هذه الحواس عديمة الفائدة.
ولكن في تلك الحالات، يساعد استخدام مزيل الاحتقان، حتى ولو مؤقتاً، في استعادة الحاستين، وهو ما يختلف مع فيروس كورونا من خلال طريقة هجوم أخرى.
وقالت جرّاحة الرأس والرقبة للأطفال في كلية الطب بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس الدكتورة نينا شابيرو: "هذه عملية التهابية تصيب العصب نفسه أو الخلايا".
كيف تعمل حاسة الشم؟
وشرحت شابيرو طريقة عمل حاسة الشم لدى الإنسان على النحو التالي:
يدخل جزيء الرائحة إلى الأنف ويهبط على نوع خاص من الأنسجة يسمى الظهارة الشمية. هذا النسيج مليء بالخلايا العصبية، التي تلتقط جزيء الرائحة وتنقله عبر البصلة الشمية إلى الدماغ، حيث يتم تفسيرها، على سبيل المثال، برائحة الورود.
يتم توجيه الخلايا العصبية في هذه الرحلة من الأنف إلى الدماغ عن طريق الخلايا الداعمة التي تعمل مثل إشارات تشير إلى الطريق.
لكن الخلايا الداعمة مغطاة بمستقبِل يسمى ACE-2، هي الهدف الأساسي لفيروس كورونا في الخلايا البشرية، وهذا يجعل الخلايا الداعمة هدفاً أساسياً أيضاً.
ويفترض الخبراء أن الفيروس يستقر في تلك الخلايا، فيعطل مسار الخلايا العصبية للوصول إلى وجهتها بالدماغ.
عندما يحدث ذلك، يفقد الناس حاسة الشم، والرائحة مرتبطة بشكل مباشر بالقدرة على التذوق.
ليس هناك ما يضمن عودة تلك الروابط العصبية إلى مساراتها الطبيعية. لكن حقيقة حدوث بعض التفاعلات على الأقل -حتى لو كان ذلك يعني أن الرائحة العزيزة الآن تشبه رائحة المواد الكيميائية- علامة جيدة، حسب رأي شابيرو.
أين تكمن الخطورة؟
تكمن خطورة فقدان حاسة الشم في عدم القدرة على شم روائح قد تمثل خطراً على الحياة مثل تسرب غازي أو رائحة حريق منزلي، أو حتى شم رائحة الطعام وما إذا كان قد أصبح فاسداً.
أما الخطر الثاني فهو التوقف عن تناول أطباق متنوعة من الطعام والشراب، الأمر الذي يهدد بنقص في بعض الفيتامينات والمعادن الأساسية التي يحتاجها الإنسان.
بدوره قال الأستاذ المساعد في علم الأعصاب بكلية الطب في جامعة هارفارد الدكتور سانديب روبرت داتا: "أنفك يؤثر في حالتك العاطفية، فهو يساعدك على التنقل بالعالم فتشعر بأنك في المكان المناسب".
وختم: "الأشخاص الذين يفقدون حاسة الشم يواجههم خطر حقيقي للإصابة باضطرابات نفسية، من ضمنها الاكتئاب".