“الإعداد لا الأعداد”.. ما الأسباب التي أدت إلى فشل تخصص الترجمة في الجامعات المصرية؟

عربي بوست
تم النشر: 2020/08/09 الساعة 10:16 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/08/09 الساعة 10:16 بتوقيت غرينتش

في مصر -كما في عديد من الدول العربية- توجد عشرات الكليات، ككليات الألسن واللغات والترجمة والآداب، إضافة للمعاهد العليا للغات، وكلها تؤكد أن رسالتها تشمل إعداد المترجمين من وإلى اللغة العربية. لكن، ورغم هذا، تحيط بعملية الإعداد هذه عشرات المشكلات، التي غالباً ما تجعل منتج هذه الكليات والمعاهد من المترجمين منتجاً رديئاً إلى حد كبير. فما هذه المشكلات، وما طرق معالجتها؟

1- تنسيق وزارة التعليم العالي

أولى مشكلات إعداد المترجمين في مصر هي الكيفية التي يلتحق بها طلاب المدارس الثانوية بالجامعات والمعاهد الحكومية في مصر، إذ ليس للطالب حق اختيار ما يدرس إلا تماشياً مع سياسة التنسيق، التي تُفرَض على كل الطلاب. في هذا النظام، يُختَار للطالب كلية أو معهد، حسب مجموعه (في الثانوية العامة) ليلتحق بها أو به، وغالباً ما يكون هناك تنسيق داخل هذه الكلية أو ذاك المعهد، يلتحق الطالب على أساس نتيجته بقسم من الأقسام العلمية. إذن، لدينا نظام يجبر الطالب على الالتحاق بكلية أو معهد، ثم قسم تُدرَّس فيه الترجمة، وليس ضرورياً أن يحب أو يرغب الطالب في دراستها. وحسب خبرتي الشخصية المتواضعة بوصفي أستاذاً جامعياً، أحسب أن أغلب الطلاب يلتحقون بكليات ومعاهد اللغات والترجمة الحكومية في مصر وهم لذلك كارهون، ومن يكره ما يدرس لا يُتوقع منه إجادته.

2- أساتذة غير متخصصين

المشكلة الثانية في إعداد المترجمين في مصر هي أن أغلب الأساتذة الجامعيين الذين يدرسون الترجمة لطلاب أقسام اللغات والترجمة متخصصون في الدراسات اللسانية أو الأدبية، ولا يحملون شهادات في الترجمة غير شهاداتهم الجامعية الأولى (الليسانس). وإحقاقاً للحق، فبعض هولاء يدرسون الترجمة بكفاءة عالية، استناداً لخبراتهم الشخصية في الترجمة، لكن يظل هذا جهداً فردياً لا ينبغي أن يُعوَّل عليه في العمل المؤسسي السليم، وهو دليل آخر أن أقسام اللغات والترجمة في مصر لا تعد الترجمة علماً مستقلاً أو تخصصاً لا ينبغي لغير المتخصصين به الاقتراب منه. والمثال الحي من داخل هذه الأقسام عينها هو عدم السماح للمتخصصين في الدراسات اللسانية بتدريس مقررات الأدب.

3- مقررات وطرق تدريس عفى عليها الزمن

تتوزع ساعات التدريس والتدريب في أغلب، إن لم يكن كل أقسام اللغات والترجمة في الجامعات والمعاهد الحكومية في مصر، على الدراسات اللسانية والدراسات الأدبية والترجمة، ومقررات المهارات والمقررات التثقيفية، وهو كم كبير يرهق الطلاب ويساعد في إعداد طالب مثقف لا إعداد متخصص في الترجمة. ومقارنة بعدد مقررات الأدب، على سبيل المثال، تعد مقررات الترجمة وتخصصاتها والساعات المخصصة لها قليلة؛ إذ تقتصر في الغالب على الترجمة الصحفية والأدبية، مع إهمال الترجمة العلمية، وترجمة العلوم الاجتماعية، مع أن ما نُهمله هو عين ما ينقصنا في واقعنا الثقافي العربي المتردّي، حيث نحتاج عدداً كبيراً من المترجمين لينقلوا لنا مستجدات العلوم البحتة والتطبيقية والاجتماعية أكثر من الأدب والإنسانيات، لأن إنتاجنا العلمي في العالم العربي كاد ينعدم. 

أما طرق تدريس الترجمة في الأقسام المشار إليها فتكاد تنحصر في الترجمة التحريرية، التي تعتمد على معاجم وقواميس ومسارد مطبوعة (إن وجدت)، دونما اعتماد كبير على تكنولوجيا الترجمة وبرمجياتها المعينة في الترجمة (CAT Tools بأنواعها المختلفة)، التي تعين المترجم على ترجمة عدد أكبر من الكلمات في وقت أقصر، والحفاظ على ترجمة المصطلح العلمي بشكل متطابق، تجنباً للخلط، وخاصة في الترجمة العلمية. وحسب علمي، لا يوجد قسم واحد في جميع الكليات ومعاهد اللغات والترجمة الحكومية في مصر -على اختلاف أسمائها ودرجاتها- يخصص مقرراً ثابتاً متدرجاً لبرمجيات الترجمة. 

ولهذا يضطر خريجو هذه الأقسام لدراستها دراسة ذاتية، أو في مراكز تعليمية خاصة، أو من خلال دورات تعليمية عن بُعد من خلال الإنترنت، أو من خلال الخبرة المباشرة أثناء العمل بعد التخرج، أي عن طريق المحاولة والخطأ. ربما يرجع السبب في هذه المشكلة الأخيرة إلى صعوبة تغيير اللوائح التعليمية في الجامعات والمعاهد الحكومية في مصر نتيجة البيروقراطية المقيتة، أو عدم توافر كوادر علمية متخصصة في برمجيات الترجمة، أو للسببين مجتمعين.

هل من حل؟

إذا سألت أغلب القائمين على إعداد المترجمين في مصر عن سبل حل المشكلات التي تحيط بهذه العملية، أجابوك بوجود الدبلومات المتخصصة في الترجمة في مرحلة الدراسات العليا، مثل دبلومة الترجمة الفورية والترجمة المهنية، وقالوا لك إنها دبلومات اختيارية يدرسها الطالب باختياره المطلق، دون أن يشعروا بحرج تجاه اعترافهم الضمني بفشل البرنامج الدراسي الذي يدرسه الطالب على مدار أربع سنوات كاملة في إعداد مترجم محترف. والحقيقة، كما نراها وفقاً لظروف المجتمع المصري، أن هذا الحل غير واقعي؛ لأن أغلب الطلاب ينتظرون إنهاء درجاتهم الجامعية "بفارغ الصبر" حتى يريحوا عائلاتهم من مصروفاتهم الدراسية ويبدأوا استقلالهم المادي الذي انتظروه لفترة طويلة، وأمام الكثير منهم خدمة عسكرية إلزامية، أو زواج سيستهلك طاقاتهم، إلخ…. وربما تفسر هذه الأسباب الاجتماعية العدد الضئيل الذي يلتحق بدبلومات الترجمة في أقسام اللغات والترجمة بالجامعات والمعاهد الحكومية على زهد أسعارها؛ ما يضطر بعض هذه الأقسام لإغلاق برامج الدبلومات، أو تعليق العمل بها لسنوات طويلة. ولهذا أقترح الحلول الآتية في الدرجة الجامعية الأولى (الليسانس):

1- السوق المصري بحاجة لعدد كبير من المترجمين، ولكن أليس عدد صغير من المترجمين المحترفين أفضل من عدد كبير من المترجمين عديمي أو ضئيلي الكفاءة؟ تقول الحكمة السيارة "الإِعداد لا الأَعداد"؛ ولذا يجب أن تُترك للطلاب حرية الالتحاق ببرامج الترجمة في الجامعات والمعاهد الحكومية دون تنسيق مُقيِّد، ودون تقيد بالمجموع الكلي في الثانوية العامة، مع تركيز على مجموع مواد اللغات فقط، وهي الأقرب لتخصص اللغات والترجمة. وداخل الكليات، يجب أن تُترك للطلاب فرصة الالتحاق بالقسم الذي يرغبون فيه دون إلزامهم بالالتحاق بقسم معين، فقط لأن به أعضاء هيئة تدريس ليس لتخصصاتهم علاقة بسوق العمل، وبات مجال عملهم الوحيد هو تدريس الترجمة لطلاب لم يختاروا ما يدرسون. أما مشكلة هولاء الأساتذة الجامعيين فلا يجب أن تكون ذنباً يحمله الطلاب طيلة حياتهم.

2- شئنا أم أبينا، الترجمة علم قائم بذاته، وله أقسامه العلمية وبرامجه الدراسية المستقلة في جامعات العالم المتقدم؛ ولذا يجب ألا يُدرِّسها في جامعاتنا ومعاهدنا إلا مَن تخصَّص بها، أو مَن تخصَّص بغيرها ولكنه مهتم بإجراء البحوث فيها ويمارسها، لا أن تصير حملاً تدريسياً يُوكَل لأساتذة لا علاقة لهم بها من قريب أو بعيد، لا لغرض إلا "تسكين" جداولهم وتوفية نصابهم من حيث عدد الساعات اللازم تدريسها. غير هذا حرث في الهواء.

3- إذا أرادت أقسام اللغات والترجمة في الجامعات والمعاهد الحكومية المصرية أن تستمر في تدريس برامج الترجمة، فعليها أن تسارع في تعديل لوائحها وبرامجها، بحيث يُخصَّص للترجمة عدد ساعات أكبر لتدريسها والتدريب عليها، مع التركيز على الترجمة العلمية، واستحداث مقررات لبرمجيات الترجمة والتطور الحادث بها، حتى لو اضطرت الأقسام لانتداب متخصصين من أقسام علمية أخرى (مثل أقسام علوم الحاسب) من الجامعات، أو ممارسين ذوي سمعة طيبة من خارج الجامعات. 

ويمكن لهذه الأقسام كذلك التفكير في الدخول في عقود شراكة مع المركز القومي للترجمة في مصر، أو ما يشابهه من مراكز كبرى خارج مصر، مثل مشروع "كلمة" في دولة الإمارات العربية المتحدة، أو دور النشر المهتمة بنشر أعمال مترجمة في مصر وخارجها، حتى يتسنَّى لأعضاء هيئة التدريس والطلاب المتميزين بهذه الأقسام العمل على ترجمة أعمال كاملة تستحق النشر. 

وأعتقد أن هذه الشراكة من شأنها أن تحوّل أقسام اللغات والترجمة إلى أقسام منتجة، تعطي منتسبيها دفعةً للأمام، كمترجمين لهم دور في إثراء الحياة الثقافية، وأعمال تحمل أسماءهم، وتمنحهم دخلاً إضافياً يُمكّنهم من تطوير قدراتهم بإمكانات مادية ربما تعجز أقسامهم عن إمدادهم بها.

أحسب أنه لو وُضعت الحلول السابقة موضعَ التطبيق لَسَار تدريب المترجمين في الجامعات والمعاهد الحكومية المصرية -وربما العربية- على نحو أفضل، ولو قليلاً. وأتمنى أن يتوقف انتشار هذه الكليات والمعاهد في ربوع مصر لحين إصلاح الخلل في برامجها، حتى لا تتكرر الأخطاء عينها.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
سعودي صادق
كاتب ومترجم مصري
كاتب ومترجم مصري
تحميل المزيد