سارت خارجة من منزلها تاركة أطفالها الصغار وحدهم، وذهبت لتلقي بنفسها من فوق التل..
لقد انتحرت!
هكذا أخبرت الممرضة زوجي في المستشفى ونحن نستعد للمغادرة بعد أن أنجبت مولودتي الثانية.
كانت الممرضات تحدثنا كثيراً عن اكتئاب ما بعد الولادة PPD، وأنه أمر يجب الانتباه إليه جداً والاهتمام به.
وعندما سألتُ إحدى الممرضات في المشفى عن مدى حرصهم على التوعية بهذا المرض إلى ذلك الحد الذي يثير المخاوف فعلاً، نظَرَت إلى زوجي وأخبرته بقصة تلك الأم الكندية التي أنجبت حديثاً وبعد عودتها إلى منزلها بأسابيع قليلة خرجت من منزلها ولم تعد. وبعد ذلك وجدت الشرطة جثتها ملقاة أسفل تل. وبفحص كاميرات المراقبة الموجودة قريباً من منزلها وفي الشوارع المحيطة، تبين أنها انتحرت. وبالتحري وجدوا أنها كانت تعاني من اكتئاب ما بعد الولادة.
لقد سمعنا كثيراً من قبل عن مصطلح (اكتئاب ما بعد الولادة)، وفوراً يتبادر إلى أذهاننا صورة المرأة التي أنجبت حديثاً وهي تشعر ببعض الضيق، وبعض الحزن، وربما تبكي أيضاً من إرهاق وإجهاد تلك الفترة الصعبة.
ولكن حينما نعلم أن هذا الاكتئاب وصل بعدد ليس بقليل من الأمهات للانتحار، أو في بعض الحالات وصل إلى أمراض نفسية وعقلية خطيرة، علينا أن نأخذ الموضوع بجدية أكبر.
اليوم سنغطي كل ما تحتاج المرأة "والأسرة بأكملها" معرفته عن هذا المرض، وكيفية اكتشافه، وأيضاً الكثير من الوسائل للمساعدة في علاجه.
ما هو اكتئاب ما بعد الولادة؟
هناك ما يسمى قلق أو اضطراب ما بعد الولادة، أو الفترة الزرقاء كما تسميها دول الغرب baby blue، وهذا النوع يصيب أكثر من 80% من الأمهات بعد الولادة.
يتمثل هذا النوع من الاضطراب في مشاعر قلق وحزن تمر بها أغلب النساء بعد الولادة نتيجة وجود المولود الحديث، وما يتبع ذلك من مسؤوليات وأعباء واضطرابات نوم وتغير في شكل الحياة. وهذا النوع من المشاعر ليس خطير، ويمكن التغلب عليه بسهولة.
أما النوع الآخر الذي نتحدث عنه هنا، وهو ما يصنف ضمن أحد أنواع الاكتئاب المرضي (اكتئاب ما بعد الولادة Postpartum Depression)، فهو مشاعر حزن عميقة جداً تؤثر على حياة الأم بشكل مباشر، وأفكار سلبية كثيرة تراودها قد تمثل خطورة على الأم وعلى المولود الحديث إذا لم يتم علاجها.
يصيب هذا الاكتئاب المرضي الكثير من الأمهات، ولكن من يلجأون بالفعل لطلب المساعدة تبعاً للإحصائيات هم فقط حوالي 15% من النساء.
وعلى الأم الحديثة وأسرتها الانتباه جيداً لأي نوع من القلق والاضطراب يصيبها، والتفرقة بين النوع الطبيعي وبين اكتئاب ما بعد الولادة الذي يحتاج لتلقي المساعدة المختصة.
الفرق بين الاضطراب الطبيعي واكتئاب ما بعد الولادة وأعراض كل منهما
يتضمن الاضطراب الطبيعي الذي يحدث للأم بعد الولادة Baby Blue الأعراض التالية:
- الشعور بالتعب والإرهاق
- مشاعر ضيق وتململ
- نسيان أحياناً
- بلبلة في المشاعر والأفكار
- انفعال زائد لأسباب غير منطقية
- أرق واضطرابات في النوم حتى وإن توفر لها الوقت
- بعض الأفكار السيئة التي تراود الأم (سواء نحو طفلها أو نفسها أو أي فرد من أسرتها المقربة)
تظهر تلك الأعراض في الأيام القليلة الأولى بعد الولادة (من 4 – 5 أيام بعد ولادة المولود)، وتنتهي في خلال أسبوعين على الأرجح من بدايتها.
ويتم ملاحظتها يوميا لمدة تتراوح بين عدة دقائق إلى ساعات معدودة في اليوم الواحد.
بينما الأعراض التي تشير إلى اكتئاب ما بعد الولادة تتضمن الآتي:
- هبوط حاد ملحوظ في الحالة المزاجية للأم في كثير من أوقات اليوم
- بطء عام في الأفعال والحركات والمهام التي تقوم بها
- اضطرابات واضحة في الشهية للطعام (سواء بالزيادة الحادة أو النقصان الشديد)
- اضطرابات حادة في النوم (في هيئة أرق أو خمول ونوم زائد)
- انفعالات حادة مبالغ فيها كردود أفعال لأي شيء
- سلسلة من نوبات البكاء الشديدة العميقة لفترات متتالية
- تعب شديد وإرهاق يصل لحد إعاقة سير حياة الأم بشكل طبيعي
- تجد الأم صعوبة كبيرة في التركيز أو اتخاذ القرارات، وتشعر بالتشوش والضبابية في ذهنها
- تراود الأم "الكثير" من الأفكار السلبية تجاه الطفل أو الزوج أو أحد أبنائها الآخرين
- شعور بالذنب والتقصير تجاه طفلها بشكل مزعج
- الشعور بالخزي من النفس وعدم الاستحقاق وتدني تقدير الذات
- إهمال الأم نظافتها الشخصية أو نظافة مولودها
- وجود أفكار انتحارية لدى الأم تجاه نفسها أو تجاه المولود. (وهنا يجب عرضها فوراً على طبيب حتى لا تمثل خطورة حقيقية على حياتها أو حياة الطفل)
أسباب حدوث هذا الاكتئاب ومدته
يستمر النوع الآمن الطبيعي من اضطرابات ما بعد الولادة لأسبوعين كما ذكرنا سابقاً.
ويتوقع حدوثه في أي وقت ما بين اليوم الرابع والعاشر بعد الولادة.
وتتلخص أسبابه في:
- قلة نوم الأم في تلك الفترة من حياة الطفل.
- الآلام الناتجة بعد الولادة (سواء آلام الحوض بعد الولادة الطبيعية، أو آلام جرح الولادة القيصرية والتئام طبقات البطن).
- عدم جاهزية بعض النساء للعناية بالمولود وتحمل الأعباء والمسؤوليات المصاحبة لتلك المرحلة.
- الضعف الجسدي العام نتيجة فترة الحمل والولادة وأحياناً الرضاعة.
أما اكتئاب ما بعد الولادة
فيبدأ الشك فيه إذا استمرت الأعراض الطبيعية لمدة تزيد على أسبوعين متصلين سوياً، وتكون موجودة أغلب ساعات اليوم. أو بدأت في الزيادة بشكل ملحوظ حتى تتضمن أعراض الاكتئاب السابق ذكرها.
وليس بالضرورة الانتظار لظهور كل تلك الأعراض مجتمعة، ولكن إذا تم ملاحظة 5 أعراض أو أكثر على الأم من الأعراض السابق ذكرها، يجب طلب المساعدة من أخصائي أو طبيب، وهو من يقوم بقياس نسبة الاكتئاب لتحديد حدته وكيفية علاجه.
على أن تتم الملاحظة من أحد أفراد الأسرة المحيطين بالأم وعلى تعامل يومي معها، أو أن تلاحظها الأم بنفسها إذا كان لديها الوعي الكافي بالمرض والمعلومات الأساسية عنه، كما في هذا المقال أو غيره.
في حين
يتوصل العلم لتحديد قاطع بأسباب حدوث هذا الاكتئاب، إلا أن هناك العديد من العوامل التي تؤثر بشكل مباشر على حدوثه
ودرجته عند كل أم:
- تغير في مستوى الهرمونات (سواء هرمونات الرضاعة أو هرمونات التناسل).
- اضطرابات في الغدة الدرقية تحدث أحياناً بعد الولادة، إما بفرط النشاط أو القصور.
- أيضاً استمرار عدم الحصول على نوم كافٍ.
- قلة أو انعدام المساعدة تؤدي في كثير من الأحيان لزيادة الضغط النفسي وتحوله لمرضي.
- المرور بحالات اكتئاب سابقة، حتى لو ليس لها علاقة بالولادة، أو وجود تاريخ سابق في المرض النفسي.
- وجود قلق عام واضطرابات داخل الأسرة.
والآن بعد عرض المشكلة بكثير من التفاصيل الهامة، نتطرق لعرض بعض وسائل وطرق العلاج التي قد تساعد كثيراً قبل تدخل أخصائي أو طبيب.
إشارة إلى النوعين الذين تم التحدث عنهم في هذا المقال من اضطرابات ما بعد الولادة، فإن النوع الطبيعي يسهل تخطيه باتباع بعض الإرشادات:
- الراحة كلما سنحت فرصة بذلك ودون تردد.
- النوم مع طفلك كلما فعل. حتى وإن كانت مدد قصيرة، لكنها ستؤثر بشكل كبير.
- التحدث والفضفضة. فالكلام له مفعول السحر في التخلص من كثير من الضغوط وحل المشكلات. ولكن يجب أن يكون حديثك مع شخص تثقين في تعاطفه معك وأنه سيقدم لك الدعم اللازم.
- أما اكتئاب ما بعد الولادة الحاد فننصح بطلب المساعدة من أخصائي أو طبيب. لأن الحالة قد تتطلب تدخل دوائي (يكون آمن على الأم والطفل إذا كانت ترضعه طبيعي)، وقد تحتاج فقط للعلاج المعرفي الذي يعتمد على الحديث الممنهج مع الأم لتعريفها بما تمر به وما عليها فعله.
إلا أننا سنعرض الكثير من العوامل التي تساعد كثيراً على تخطي أعراض الاكتئاب بسلام في فترة الأسبوعين الأوائل قبل أن يتطور الوضع:
- تلقي المساعدة في الشهور الأولى من عمر الطفل من أحد أفراد العائلة إن أمكن. لا تترددي في طلب المساعدة من شخص قريب منك في تنفيذ بعض المهام بدلاً منك. واستمتعي بوجود هذه المساعدة حتى لو كانت بقدر قليل.
- تلقي الدعم العاطفي من الأسرة والأصدقاء. عن طريق شرح ما تمرين به لمن تثقي فقط في تعاطفهم معكِ. عبري عن مشاعرك كما هي لكن دون مبالغة بهدف أن توصلي شعورك لمن يسمعك. المبالغة تضرك أنتي في المقام الأول، فتجنبيها تماماً.
- إذا كان طفلك "طبيعياً" ويستيقظ كثيراً بالليل، ولا تستطيعين النوم، اطلبي من زوجك "مسبقاً" الاستيقاظ بعض الوقت للبقاء مع الطفل بينما تنامين أنتِ.
- وضعي خطة للاستمتاع بتلك الأوقات التي تقضينها مستيقظة بمفردك مع طفلك ليلاً. ذكري نفسك أن هذه فترة مؤقتة وستمر، واستغلي الوقت في ممارسة هواية، أو الاستماع لشيء تحبيه، أو القراءة، أو حتى مشاهدة التلفاز قليلاً. ولكن إذا اخترتي مشاهدة التلفاز، فانتقي جيداً ما تشاهدينه حتى لا يأتي بنتائج عكسية ويجعل أوقات سهرك هي أسباب زيادة الاكتئاب وليس التخفيف منه. فلا تقضي الوقت مثلاً في مشاهدة المسلسلات الرومانسية وزوجك نائم بجانبك، وتغرقين في حالة شفقة على نفسك ووحدتك وكل ما تمرين به.
- كذلك قضاء الوقت على مواقع التواصل الاجتماعي خيار سيئ يزيد من اكتئابك ويجعل مشاعرك أكثر حزناً. استمتعي بهذا الوقت فقط.
- التعرف على خصائص حياة الطفل في الشهور الأولى هام جداً لتتوقعي ما سيحدث وتستعدين له نفسياً. فمثلاً بعد ولادة طفلتي الثانية تكلمت معي الممرضة في المستشفى عن بكاء الأطفال كثيراً، وكيف أنهم في الشهور الأولى يمرون بنوبات بكاء حادة دون أي سبب واضح. وكانت تلك معلومة جديدة بالنسبة لي، فأنا أعلم تماماً أن الأطفال تبكي كثيراً في ذلك السن لأسباب مختلفة قد تصل في بساطتها لشعوره بالحر أو البرد. فما نفعله نحن الأمهات عند بكاء الطفل هو البحث المكثف عن سبب ذلك البكاء وتجريب جميع الحلول الممكنة لنا. وبعد العديد من محاولات التهدئة نبدأ في الشعور بالإحباط والغضب من هذا البكاء المستمر الذي لا نعرف له حلاً.
لكن معرفتي بما أخبرتني به الممرضة أن الدراسات أثبتت بكاء الطفل "بحدة" كثيراً دون سبب محدد، جعلتني أكثر هدوءاً عند حدوث ذلك مع باقي أطفالي، وأصبحت مستعدة لتلك النوبات وزادت قدرتي على تحملها وبالتالي قلّ شعوري بالإحباط والتوتر وإن لم ينتهي تماماً.
- النوم ثم النوم ثم النوم. كلما نام طفلك اركضي للسرير لتنامي. لا تكترثي للوقت ليلاً أم نهاراً، لا تكترثي للمنزل مرتباً أم لا، لا تكترثي للطعام جاهزاً أم لا. النوم من أهم متطلبات الإنسان الجسدية ليحيا حياة طبيعية. وأي خلل به يؤثر بشكل مباشر على عقل الإنسان وأعصابه وسلوكياته. لا ننس أن الله يعين المرأة في تلك الفترة ويمنحها القوة لتحمل تلك المرحلة وتخطيها بسلام، لكن كل 10 دقائق نوم ستشكل لكِ فارقاً.
- الراحة: إذا لم تستطيعي النوم، استلقي فقط دون نوم "ودون هاتف أيضاً" ودون أي مشتتات. استمتعي ببعض الهدوء والاسترخاء أثناء نوم طفلك. يؤثر هذا كثيراً على جهازك العصبي وبتالي على قدرتك على مواصلة يومك بهدوء.
- تنازلي "وتتنازل الأسرة بأكملها" عن بعض مسؤولياتك في السنة الأولى من عمر الطفل. أنت مرهقة من السهر مع مولودك والعناية به، وتمرين باضطرابات في مشاعرك قد تصل للاكتئاب. لا تطالبي نفسك بالكثير، ويكفيكي الحد الأدنى من "الأساسيات" المنزلية. لا تنتظري ولا تتوقعي أن يكون منزلك بكامل نظافته وترتيبه، وغسيل الأسرة دائماً نظيف وفي مكانه، والطعام الطازج يتم إعداده يومياً، بالإضافة إلى العناية بنفسك وبطفلك الجديد. تحدثي مع أسرتك عن كل هذا وأنك لن تكوني في كامل طاقتك لشهور عدة. وعلى الأسرة كلها التأقلم مع ذلك.
- اعتني بنفسك. لا تهملي مظهرك الخارجي مهما كنتي متعبة. فشكلك ومظهرك يؤثر كثيراً على نفسيتك. حاولي أن تفعلي ولو القليل لجمالك ونظافتك وهندامك الخارجي. ستساعدك كثيراً رؤية نفسك بشكل جميل في التقليل من الأفكار والمشاعر السلبية تجاه ذاتك.
- عدم مقارنة نفسك أو طفلك بأي أحد على الإطلاق. كل شخص هو مميز بذاته، والفروق جوهرية بين كل شخصية وأخرى، وبين قدرات ومهارات وظروف وتاريخ أسري. ليس هناك ما يسمى بالطفل المثالي الذي يأكل وينام ويجلس في هدوء دائم، ولا أم مثالية تسهر وتراعي وتربي وتنظف وتهتم بنفسها وطفلها وبيتها بشكل كامل. كل تجربة بها مميزاتها ونواقصها. ابحثي في تجربتك عن مميزاتك ونقاط قوتك ومميزات طفلك ومميزات ظروفك مهما كانت صعبة.
- اقرأي عن اضطرابات ما بعد الولادة كثيراً. فكلما زادت معرفتك بما تمرين به أو احتمال أن تمري به، اطمأنت نفسك وهدأت الأفكار السلبية داخلك، وازددتِ قدرة على تخطي تلك المرحلة بقدر من الأمان. اقرأي قصص سيدات مروا بتلك الحالة وكيف واجهوها لتعرفي أنك لست وحدك وأن هناك من يشعر بك.
وفي النهاية علينا الإشارة لنقطة هامة
مساعدتك على تخطي تلك المرحلة هي مسؤوليتك أنتِ في المقام الأول.
لا تحزني كثيراً إذا لم تجدي مساعدة ودعم من أسرتك كما تتوقعين. تذكري أن الوعي النفسي والاهتمام بالصحة النفسية في مجتمعاتنا العربية ليس بمستوى جيد إطلاقاً.
يكفيكي ما تمرين به من مشاعر وأعباء. ساعدي نفسك قدر استطاعتك ولا تحمليها ما لا طاقة لها به.
إن تلقيتي المساعدة "ولو قليلاً" كوني ممتنة وشاكرة. ولاحظي حتى المحاولات ممن حولك. قد يحاولون المساعدة ولا ينجحون. قدري الجهد المبذول منهم بدافع الحب، وأكملي مساعدتك لنفسك بنفسك.
يسرا القارح أم لثلاثة أطفال، مقيمة في كندا. تهوى القراءة و الكتابة والتعلم الذاتي والبحث، باحثة ومتخصصة في مجالي التربية وعلم النفس منذ عام 2010
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.