على بحيرة جليدية في سيبريا تجمهر نحو 100 شخص من شتى أنحاء العالم، ليخوضوا ماراثوناً، لا، لم تضِق بهم الدنيا، أو شوارع أجمل المدن، ولكن الروس الذين أصبح البرد جزءاً من شخصيتهم قرَّروا الاحتفال بأحوالهم الجوية، فأطلقوا هذا الماراثون العام 2005.
وحتى يومنا هذا مازال الحدث البارد يستقطب رياضيين مغامرين بكل ما للكلمة من معنى، يدفعهم حب تحدّي النفس واستكشاف كوكب الأرض.
تخيل الموقف: هواء قارس فوق بحيرة جليد ودرجة الحرارة تحت الصفر، أنفك يكاد ينكسر لأنه تجمَّد، وأذناك قاسيتان، وتشعر بأن مياه عينيك ستجف. ما العمل كي تتدفأ؟ أركض ولا تتوقف.
فيرونيك ميسينا، إحدى متسابقات ماراثون عام 2019، لم يحذّرها أحد عندما تقَعْقَع الجليد واهتزَّ تحت قدميها، ولم يخبروها ما الذي عليها أن تفعله لو سمعت ذلك الصوت المريب.
جاءت فيرونيك، وهي سيدة فرنسية متخصصة في علاج أمراض التخاطب، تعمل في كمبوديا، إلى بحيرة بايكال في سيبيريا الروسية، للمشاركة في سباق ماراثون على سطحها المتجمد.
وغامرت فيرونيك (40 عاماً) لأداء أول تجربة لها على الجليد قبل يوم فقط من السباق.
وقالت: "في البداية، أنا أخاف من الماء، وكما ترون أنتم تركضون فوق المياه".
شكَّلت قعقعة الجليد واهتزازته أثناء تحركه -فيما يطلق عليه أحياناً "سميفونية بايكال"- مفاجأة غير سارة بالنسبة لفيرونيك.
وعن ذلك قالت: "كان الأمر مروعاً، فالجليد كان يهتز، وكنت أرجف. وأعتقد أنني ركضت بضِعف سرعتي في كل مرة تشقَّق فيها الجليد".
ماراثون على الجليد وسط تقلبات جوية غير متوقعة
وغالباً ما يستغل متسابقو الماراثون فرصة المشاركة في السباقات لاستكشاف العالم، وفي شهر مارس/آذار من كل عام، يستقطب ماراثون بايكال الجليدي مجموعة صغيرة من المتسابقين الذين يأتون إلى البحيرة –المُدرجة في قائمة اليونسكو لمواقع التراث العالمي– لجمالها الفريد وتحدي الظروف القاسية غير المتوقعة بها.
تتكون البحيرة الشتوية -التي تحدها الجبال البعيدة المغطاة بالثلوج- من سهل واسع من الجليد الأبيض تقطعه مساحات ممتدة من الجليد الأزرق الداكن الذي تذروه الرياح.
ويولد المناخ الأصغري (المناخ الخاص بمنطقة جغرافية صغيرة) عواصف تخرب توقعات الطقس.
إذ قال أليكسي نيكيفوروف (58 عاماً)، الرجل الجذاب الفصيح والمشاكس أحياناً، صاحب فكرة الماراثون الذي أُقيم هذا العام يوم 2 مارس/آذار الماضي: "العلم لا يمكنه مساعدتنا".
وقال العديد من المتسابقين إن رغبتهم في اختبار قدراتهم هي التي دفعتهم للمشاركة في ماراثون بحيرة بايكال، التي تُعد أكبر وأعمق مسطح مائي من المياه العذبة على كوكب الأرض، وتقع على بُعد نحو 4345 كيلومتراً شرق العاصمة الروسية موسكو.
وقالت سابرينا كونغ، وهي مصرفية من هونغ كونغ لصحيفة The New York Times: "يحل عيد ميلادي الثلاثون في وقت لاحق من هذا الشهر؛ لذلك أردت أن أفعل شيئاً مجنوناً".
وأضافت بحماس: "سجلت اشتراكي في الماراثون قبل التفكير في مدى خطورته".
وتضمن تقلبات الجليد والطقس ألا يتطابق أي سباقين في ظروفهما.
37 كيلومتراً فوق جليد يتحمل وزن دبابة
وقال نيكيفوروف خلال مؤتمر صحفي في الليلة التي سبقت سباق هذا العام: "يقدم ماراثون بايكل مفاجآت جديدة -لا سيما للمتسابقين- في كل مرة؛ مما يجعله أكثر إثارة للاهتمام".
وعندما طُلِب منه تنظيم ماراثون حول البحيرة عام 2005، قال نيكيفوروف -الذي يملك شركة سياحة صغيرة في سيبيريا- في نفسه: "لماذا لا ننظم الماراثون عبر البحيرة؟"
وتبلغ المسافة بين محمية بايكاليسكي الطبيعية على الشاطئ الشرقي وقرية ليستفيانكا -أهم قرية سياحية على الجانب الغربي من روسيا- 37.3 كيلومتراً، أي أقل بخمسة كيلومترات من الطول الرسمي للماراثون وهو 42.1 كيلومتر.
لكن صعوبة إضافة هذه الكيلومترات الخمسة تكمن في تحديد مسار سلس خالٍ من التصدعات أو حواجز وعرة من الجليد المكسور.
واستكشف نيكيفوروف الجليد مراراً وتكراراً لمدة أسابيع قبل السباق، واختبر سمكه باستخدام مثقاب يدوي قوي. إذا كان سمك الجليد يبلغ 17 بوصة؛ فيمكنه تحمل دبابة تسير فوقه. وبلغ سمك الجليد هذا العام نحو 27 بوصة.
"بحيرة بايكال كائن حي".. ولا يمكن تنبؤ ردات فعلها!
وتمثل التشققات خطراً في التواء الكاحل أكثر من احتمالية السقوط، رغم أنه في إحدى السنوات تكونت فتحة كبيرة خلال السباق، ليتجنب المتسابقون بدورهم السقوط في المياه من خلال التسلق على ثلاثة مراكب صغيرة مصطفة.
وفي العام الماضي، هبَّت رياح ثلجية عنيفة فجأة، مما قلل مسافة الرؤية إلى بضعة أمتار.
ضلّ المتسابقون طريقهم وتعثروا على مضمار السباق المحدد بأعلام حمراء قصيرة، وأُصيب بعضهم بقضمة الصقيع؛ مما دفع نيكيفوروف لإلغاء السباق على مضض لأول مرة وأخلى المكان من الجميع.
واستناداً إلى تقاليد ديانة الشامانية المحلية، يرى نيكيفوروف أن بحيرة بايكال كائن حي.
وقال نيكيفوروف: "يعتقد الناس أنني مجنون عندما أقول إن بحيرة بايكال كائن حي، وإنها تتنفس، لكنهم يأتون إلى هنا ويشعرون بذلك".
ربع المتسابقين فقط من الروس
وحرص الشريكان المتسابقان الروسي فلاديمير فولوشين (44 عاماً) ولوران لوكامب (41 عاماً) -اللذان أُجبرا على مغادرة سباق 2018- على تقبيل الجليد عندما وصلوا إلى البحيرة هذا العام.
وقال فولوشين: "كان هذا جزءاً من استثمارنا في الطقس الجيد".
وخلال المؤتمر الصحفي، ذكر نيكيفوروف أنه قد اكتشف للتو تشققاً جديداً في الجليد.
وسأله أحد الحاضرين بقلقٍ قائلاً: "هل يمكنك توضيح المزيد عن هذا التشقق، ما مدى اتساعه؟"
وأجاب نيكيفوروف قائلاً: "قد ينغلق (التشقق) وقد يتسع، نحن لا نعلم"، مضيفاً أنه يمكن وضع ألواح فوق التشقق الذي يبلغ اتساعه 11 بوصة إذا لزم الأمر.
بدأ يوم السباق برحلة مدتها 55 دقيقة على متن 10 مراكب (حوامات) صغيرة عبر البحيرة للذهاب إلى نقطة البداية.
وفي نسخة هذا العام، شارك 97 رجلاً و30 امرأةً من 23 دولة في السباق، وكان ربع المتسابقين من روسيا.
والهدف حماية البحيرة التي تضم نصف المياه العذبة على الأرض
ومن بين إجمالي المشاركين، ركض 24 متسابقاً مسافة نصف ماراثون.
ويحرص نيكيفوروف على أن يكون السباق صغيراً؛ حتى يتمكن من إخلاء الجميع إذا لزم الأمر.
وحمل السباق شعار "الحفاظ على المياه النظيفة"، لكنه يُعد محاولة لزيادة الوعي حول حماية البحيرة العميقة أكثر من كونه نشاطاً للتوعية البيئية.
إذ تمثل البحيرة نحو نصف المياه العذبة على كوكب الأرض.
وهددت احتمالات سقوط الأمطار بسبب الغيوم الكثيفة بذوبان الجليد، بينما كان المتسابقون يحتشدون لبدء السباق. وفي غضون ساعة، انتشر المتسابقون على مسافة 4.8 كيلومتر، وكانوا مثل نقاط سوداء صغيرة على كوكب أبيض بالكامل حيث اندمجت البحيرة الجليدية مع السماء الملبدة بالغيوم.
قواعد السباق صارمة.. ولا لخلع الملابس!
ثم برزت الشمس وارتفعت الحرارة إلى 3 تحت الصفر مئوية -وهو ما يُعد طقساً معتدلاً بالنسبة لسيبيريا في شهر مارس/آذار- خلع أحد المتسابقين الروس ملابسه وأبقى السروال القصير فقط، قبل أن يراه نيكيفوروف ويقفز من مركبته متجهاً إليه.
وصاح نيكيفوروف في المتسابق الروسي -مهدداً إياه بالطرد من السباق إذا لم يرتد ملابسه مرة أخرى- قائلاً: "إما ستنتزع خصيتيك بنفسك وإما سنساعدك في ذلك!".
وتمتم قائلاً: "يجب أن تكون القواعد صارمة، هذا هو ماراثون بايكال".
ويشمل الزي الموصى به للمشاركة في السباق قناعاً وشريطاً لاصقاً للوجه ونظارة واقية ومصباحاً كهربائياً وسترة وسروالاً مقاومين للريح وطبقتين من الملابس الداخلية الحرارية وقفازات ثقيلة، وكذلك كان ارتداء الأحذية الرياضية أو أحذية الركض ذات المسامير ضرورياً.
كلٌّ مسؤول عن نفسه فوق جليد بايكال
وشقّ المتسابقون طريقهم بصعوبة عبر الجليد الصلب أحياناً، وأحياناً ركضوا فوق الثلج المجروش.
وصنع أليكس أوشيا (44 عاماً) -وهو رجل إطفاء من مدينة كورك الأيرلندية- حذاءه الخاص من خلال دق مسامير معدنية في نعل الحذاء.
لكن كانت رؤوس المسامير المسطحة عديمة الفائدة على الجليد الصلب، وسقط أليكس في إحدى المرات.
بدأت فيرونيك السباق ببعض الخوف، ولأنها كانت تخشى تشققات الجليد قررت الالتصاق بالمتسابقين الآخرين.
لكنها سرعان ما وجدت نفسها بمفردها تحدق في الشقوق البيضاء السميكة في الجليد وتتساءل أين تقفز إذا انفتح أحدها.
وقال فيرونيك: "كان الأمر جميلاً أيضاً. أن تكون بمفردك في بحيرة بايكال. إنه سباقك، وأنت وحدك مع نفسك".
لم تكن فيرونيك خائفة من المسافة، إذ خاضت سباقات أطول، مثل اجتياز صحراء غوبي -التي يبلغ طولها 402.3 كيلومتر- في منغوليا.
وفيما يُعد أمراً فريداً من نوعه في سباقات الماراثون، كان بالإمكان رؤية خط نهاية السباق من نقطة بدايته.
ومع ذلك، لم توفر المساحة البيضاء اللانهائية رؤية واضحة.
وبالنسبة للمتسابقين، كان الفندق البعيد الذي يقع بعد خط النهاية، أو محطات المساعدة التي تقدم الشاي والوجبات الخفيفة كل 6.4 كيلومتر، يبدو عائماً في الفضاء دون أن يقترب.
وعند خط النهاية.."لقد فعلتها، لقد ركضت فوق الماء"
وبالنسبة لبعض المتسابقين، أدى ذلك وغياب المتفرجين إلى شعورهم بالملل أثناء السباق؛ لذلك تخيلوا سماع هتافات الحشود.
وكان كيث جيرت (64 عاماً)، وهو مسؤول علاقات عامة من مدينة لوس أنجلوس الأمريكية شبه نفسه بالناجي الوحيد في جزيرة منعزلة، يردد أغانيه المفضلة مثل أغنية "Highway to Hell" لفرقة AC/DC الغنائية أثناء ركضه.
انتهى السباق بقليل من الضجة، إذ تجاهل السياح المحتشدون في البحيرة المتسابقين، الذين نجحوا في الوصول إلى خط النهاية بعد تخطي عقبات مثل المتزلجين على الجليد والسياح الذين يلتقطون صور السيلفي.
وفاز المتسابق الروسي أنتون دولغوف (44 عاماً)، وهو مسؤول تقنية معلومات من موسكو، بالسباق بعدما أنهاه في 3 ساعات و5 دقائق و5 ثوانٍ.
وكانت إيكاترينا ليكاشيفا (30 عاماً) من مدينة إيركوتسك القريبة هي أول امرأة تنهي السباق بعد 3 ساعات و49 دقيقة و30 ثانية، إذ انزلقت على ركبتيها بسعادة في الأمتار القليلة الأخيرة لتعانق زوجها وابنها الصغير.
وكانت فيرونيك هي سادس امرأة تنهي السباق بعد 4 ساعات و30 دقيقة و54 ثانية.
وقالت فيرونيك بنبرة انتصارية: "لقد فعلتها، لقد ركضت فوق الماء"، واصفة التجربة بأنها مثل رائد فضاء يستكشف كوكباً آخر.
وأضافت: "أنا كنت سعيدة للغاية لوجودي هناك فحسب!"
وبسؤالها عما إذا كانت ستخوض التجربة مجدداً، أجابت فيرونيك ضاحكة: "أود أن أرى أماكن جديدة وأجرب أشياء أخرى".