طوال 340 يوماً، كان سكوت كيلي يدور حول الأرض على متن محطة الفضاء الدولية، ويجمع بياناتٍ عن نفسه.
إذ أجرى تحليلات بول ودم، ولعب بعض ألعاب الحاسوب لاختبار ذاكرته وسرعة رد الفعل لديه، وقاس شكل عينيه.
بينما أجرى مارك -شقيقه التوأم الذي كان رائد فضاء كذلك- اختبارات مماثلة فوق سطح الأرض. والآن، أتاحت مقارنةٌ بين هذين الشقيقين فرصةً فريدةً لمعرفة ما يحدث لكل شيء في جسم الإنسان في الفضاء، حتى المستوى الجزيئي.
ففي يوم الخميس الماضي 11 أبريل/نيسان، بعد نحو ثلاث سنوات من عودة كيلي (55 عاماً) إلى الأرض، ذكر باحثون في وكالة ناسا أنَّ جسده تعرَّض لعددٍ كبير من التغييرات أثناء وجوده في الفضاء. إذ تحوَّر الحمض النووي في بعض خلاياه، وأنتج جهاز المناعة لديه مجموعة من الإشارات الجديدة، واكتسب الميكروبيوم الخاص به أنواعاً جديدة من البكتيريا.
وصحيحٌ أنَّ العديد من هذه التغييرات البيولوجية بدت غير ضارة، واختفت بعد عودته إلى الأرض. لكنَّ البعض الآخر -بما في ذلك الطفرات الوراثية وانخفاض درجاته في الاختبار المعرفي بعد عودته- لم تعُد كما كانت، مما أثار القلق بين العلماء.
وبحسب ما نشره موقع صحيفة The New York Times الأمريكية، اعتبر بعضهم أنَّ المخاطر يمكن السيطرة عليها، في حين تساءل آخرون عمَّا إذا كان من الآمن لرواد الفضاء في الأساس إجراء رحلاتٍ طويلة إلى المريخ أو أبعد منه. ستعتمد الإجابات النهائية على إجراء دراساتٍ على المزيد من رواد الفضاء.
فحص مدته عامٌ
وقال إريك توبول، مدير معهد Scripps Research Translational Institute، الذي لم يشارك في الدراسة: "أعتقد أنَّ ذلك هو التقييم الأشمل الذي يُجرى على البشر حتى الآن. لا أعرف أي شيء قريب من هذا".
ومع أنَّ رواد الفضاء قد بدأوا يُرسَلون إلى الفضاء الخارجي منذ ستة عقود تقريباً، ما زال العلماء لا يفهمون أشياء كثيرة عن الحياة في الفضاء. وفي ظل نشر تحقيقاتٍ علمية، مثل دراسة Twins Study التي أجرتها وكالة ناسا على الشقيقين التوأم، في دورية Science العلمية، تأمل الوكالة في إيجاد إجابات عن بعض الأسئلة قبل إرسال رواد فضاء في رحلات طويلة.
ففي عام 2012، اختارت ناسا كيلي للانضمام إلى رائد الفضاء الروسي ميخائيل كورنينكو على متن المحطة الفضائية لإجراء فحصٍ مدته عامٌ لتحديات السفر إلى الفضاء، أي ضعف مدة الدراسات السابقة.
وفي الفترة التي سبقت إعلان إرسال هذه البعثة، سأل كيلي المسؤولين عمَّا إذا كانوا يعتزمون مقارنته بشقيقه التوأم. ويتذكر كيلي أنَّه قال لهم آنذاك: "لدينا هذان الرجلان المتطابقان وراثياً. سوف يصنعان تجربةً ممتعة".
وصحيحٌ أنَّ المسؤولين لم تكن لديهم خططٌ كهذه، لكنَّهم سرعان ما قرَّروا عرض الأمر على مارك كيلي، الذي وافق. ومن هنا ولدت دراسة Twins Study.
مارك كيلي، الذي تقاعد من وكالة ناسا في عام 2011 وهو زوج غابرييل جيفوردز، النائبة السابقة في مجلس النواب، أعلن ترشُّحه للفوز بمقعد ولاية أريزونا في مجلس الشيوخ.
وعن طريق مقارنة الشقيقين، تأمل وكالة ناسا أن تفهم التغييرات التي طرأت على سكوت أثناء رحلته فهماً أفضل.
إذ قالت سوزان بيلي، البيولوجية المتخصصة في السرطان في جامعة ولاية كولورادو وإحدى الباحثات المشاركات في تأليف الدراسة الجديدة: "حقيقة أنَّهما توأم تُقلِّل المتغيرات الأخرى. لذا يمكننا القول، بناء على ما توصلنا إليه حتى الآن، إنَّ هذه التغييرات ناجمة عن الرحلة الفضائية".
وصحيحٌ أنَّ هناك عشر فرق بحثية صمَّمت التجارب للشقيقين، ومن المحتمل أن تُجري كمَّاً هائلاً من البحوث، لكن بالنسبة لكيلي فالتجربة لم تكن مختلفة كثيراً عن البعثات السابقة.
فعلى سبيل المثال، كان أخذ عينةٍ من دمه في الفضاء مجرَّد إجراء روتيني مألوف. وقد قال كيلي: "لقد سُحِبَت منِّي عينتان من الدم أثناء البعثة، وكل ما فعلته هو أنني أحضرت ضمادة وضغطت على مكان خروج الدم بقوة".
توازن جديد في الفضاء
وبإجراء العديد من القياسات، وجد العلماء في النهاية أنَّ حجم التغيرات التي طرأت على كيلي يعادل حجم التغيرات التي طرأت على رواد فضاء بقوا في المحطة الفضائية ستة أشهر فقط. إذ تباطأت وتيرة التغير البيولوجي في نهاية المطاف، مما يشير إلى أنَّ جسم الإنسان ربما يصل إلى توازن جديد في الفضاء.
بيد أنَّ جسد كيلي شهد تغيُّراتٍ مفاجئة بعض الشيء.
إذ درست سوزان أجزاء خاصة من حمضه النووي تسمى التيلوميرات، وهي تقع عند أطراف الكروموسومات، وتحميها من التدهور.
فمع تقدم الإنسان في العمر، تميل التيلوميرات إلى أن تصبح أقصر. وقد يؤدي تعرُّض التيلوميرات للإجهاد -عن طريق الإشعاع أو التلوث على سبيل المثال- إلى تسريع الشيخوخة بتآكل التيلوميرات بوتيرةٍ أسرع من المعتاد.
لكنَّ الغريب أنَّ متوسط طول تيلوميرات كيلي زاد في الفضاء، بدلاً من أن يتناقص، كما لو أنَّ خلاياه أصبحت أكثر شباباً.
وصحيحٌ أنَّ ممارسة التمارين الرياضية بانتظام واتباع نظام غذائي صحي قد يكونان جزءاً من السبب في ذلك، لكنَّ سوزان قالت إنَّ الذهاب إلى الفضاء ربما أيقظ عدداً هائلاً من الخلايا الجذعية في جسم كيلي.
أي أنَّ طول التيلوميرات في خلاياه ربما لم يتزايد، بل ربما كوَّن جسمه مورداً جديداً لخلايا شابة ذات تيلوميرات أطول.
جينات مُنشَّطة
يبدو أن الذهاب إلى الفضاء أسفر عن تحوُّل جيني في كيلي؛ إذ زاد نشاط آلاف الجينات التي كانت هادئة يوماً ما، وهي نفسها الجينات التي ظلت هادئة في جسد شقيقه مارك كيلي، الذي بقي على كوكب الأرض. وكلما طالت مدة بقاء سكوت كيلي في الفضاء، زاد عدد الجينات النشطة.
ومن المعروف أنَّ بعض الجينات التي ازداد نشاطها تُشفِّر البروتينات التي تساعد على إصلاح الحمض النووي التالف. وقد يكون ذلك منطقياً، نظراً إلى أنَّ مستويات الإشعاع في محطة الفضاء الدولية أعلى منها فوق سطح الأرض.
ويُقدِّر كريستوفر ميسون، أستاذ علم الوراثة في كلية طب ويل كورنيل في نيويورك، أنَّ كيلي تعرَّض لإشعاعٍ يزيد بمقدار 48 مرة على متوسط الإشعاع الموجود على سطح الأرض طوال عام. لذا قد تكون خلاياه مشغولة بإصلاح الإصابة الناجمة عن الإشعاع.
ومع ذلك، يؤدي عددٌ من الجينات المُنشَّطة الأخرى أدواراً في الجهاز المناعي. لكنَّ ماهية الشيء الذي يثير تلك التغييرات ليست واضحة بالضبط.
قد يكون الإجهاد العام الناتج من الحياة في المحطة الفضائية هو الذي يثير استجابة مناعية. لكنَّ بعض الدراسات الحديثة أظهرت كذلك أنَّ هناك فيروسات كامنة يمكن أن تنشط داخل أجساد رواد الفضاء.
أو ربما أنَّ الجهاز المناعي، الذي لم يتطور مطلقاً للعيش في الفضاء، يُصاب بالتشوش.
من جانبه، قال ميسون، أحد الباحثين المشاركين في تأليف الدراسة الجديدة، متحدثاً عن النشاط المناعي: "هل هو جيد أم سيئ؟ لا نعرف سوى أنَّه يزداد. ولكي نعلم علم اليقين، نحتاج إلى المزيد من رواد الفضاء".
جديرٌ بالذكر أنَّ عودة كيلي إلى الأرض في 1 مارس/آذار من عام 2016 أثبتت أنَّها إحدى أكبر لحظات الرحلة بأكملها، من الناحية البيولوجية. إذ ظهرت على جسده علامات الإجهاد الشديد، وكان جهاز المناعة لديه في حالة نشاطٍ قصوى.
لكنَّ مايكل سنايدر، أستاذ علم الوراثة في جامعة ستانفورد وأحد الباحثين المشاركين في الدراسة، حذَّر من أنَّ هذه الاستجابة قد لا تكون نموذجية، قائلاً إنَّه "ربما أصيب بعدوى فيروسية. لذا ينبغي أن نرى ذلك في مزيدٍ من الأشخاص".
وبالرغم من هذه التغيرات المفاجئة، عاد جسد كيلي إلى حالته قبل الرحلة الفضائية. فعلى سبيل المثال، قلَّ عدد بعض أنواع البكتيريا، التي ازدهرت في أمعائه أثناء وجوده في الفضاء، مرةً أخرى عند هبوطه على سطح الأرض.
أمَّا الإطالة الغريبة التي طرأت على تيلوميراته، فقد اختفت بعد أقل من 48 ساعة من هبوطه على الأرض، بل إنَّ سوزان وزملاءها بدأوا يكتشفون العديد من الخلايا ذات تيلوميرات أقصر ممَّا كانت عليه قبل ذهاب كيلي إلى الفضاء.
وقالت سوزان عن ذلك: "الناس يسألونني: هل الذهاب إلى الفضاء يحافظ على الشباب؟ لا أعتقد ذلك. وإذا كان الأمر كذلك، فسيتعين عليك البقاء هناك إلى الأبد".
أدفع جسدي وسط رمال متحركة
لم تعُد بعض الجوانب الحيوية في جسد كيلي إلى حالتها قبل الرحلة الفضائية.
فبعد ستة أشهر من عودته إلى الأرض، كانت 8.7% من جيناته ما زالت تتصرف بطريقة متغيرة. وبناءً على قلة حجم هذا التغير، وصفه سنايدر بأنه متواضع.
ووجد الباحثون كذلك أنَّ نتائج كيلي في الاختبارات المعرفية بعد عودته صارت أقل مما كانت عليه قبل ذهابه. وقال ماتياس باسنر، أستاذ العلوم المعرفية في جامعة بنسلفانيا: "لقد أصبح (كيلي) أبطأ وأقل دقة في جميع الاختبارات تقريباً".
ومن الممكن أن يكون سبب ذلك هو حدوث بعض التغييرات البيولوجية. لكنَّ باسنر ذكر أنَّ كيلي واجه كذلك الكثير من المتطلبات عند عودته إلى الأرض، بما في ذلك جدولٌ مزدحم بالمقابلات التلفزيونية والخطابات العامة.
لذا فعلى مستوى اللاوعي، ربما لم يعد متحفزاً. وقال باسنر: "أقصد أنه تقاعد أساساً فور عودته إلى الأرض، ومن ثَمَّ، ربما لم يعد لديه دافع لفعل شيء".
ففي مذكرات كيلي التي كتبها في عام 2017 وتحمل اسم Endurance أو "التحمُّل"، وصف كيلي معاناته مع الألم واضطرابات النوم وغيرها من المشكلات بعد عودته. وقال فيها إنَّه في إحدى الليالي شعر بأنَّه "يدفع جسده وسط رمال متحركة".
وفي إحدى المقابلات، خمَّن كيلي أنَّ تلك الصعوبات قد تكون السبب في نتائجه في الاختبارات المعرفية. وقال: "من الصعب التركيز عندما تشعر بأنَّك لست على ما يرام".
ومن بين التغييرات الدائمة الأخرى التي وجدها العلماء مجموعةٌ من الطفرات الجينية التي اكتسبها كيلي في الفضاء. وقد قال عنها ميسون: "رأيناها تظهر في أثناء الرحلة الفضائية، ثم استمرت بعد ذلك".
ففي بعض الأحيان، يُسبِّب الإشعاع نوعاً من الطفرات تجعل الخلايا عُرضةً لاكتساب المزيد من الطفرات عند انقسامها. وفي نهاية المطاف، قد تبدأ الخلايا في النمو بطريقةٍ لا يمكن السيطرة عليها، "فتثير عوامل الإصابة بالسرطان"، وفقاً لما ذكرته سوزان.
من جانبه، ذكر بيتر كامبل -وهو عالم أحياء متخصص في السرطان في معهد ويلكوم سانغر في بريطانيا لم يشارك في الدراسة الجديدة- أنَّ العلماء لا يستطيعون التنبؤ بتأثير الطفرات الإضافية في صحة كيلي.
وقال: "من الصعب التيقن من ذلك، لكنني أعتقد أنَّ هذه الأرقام قد تكون مرتبطة بزيادةٍ معتدلة في خطر الإصابة بالسرطان".
زيادة احتمالات مخاطر أخرى
وهذان التغييران الدائمان -في قدرات كيلي المعرفية وحمضه النووي- أثارا قلق عددٍ من الخبراء حيال مخاطر الرحلات الفضائية إلى المريخ، التي قد تستغرق كلٌّ منها عاماً.
إذ قال غاري سترينجمان، أستاذ علم النفس في كلية الطب بجامعة هارفارد، إنَّ انخفاض السرعة والدقة "يمكن أن يكون له عواقب وخيمة على الرحلات الفضائية الطويلة الأمد".
فبعد عودتهم من رحلةٍ مرهقة إلى الكوكب الأحمر، يحتاج رواد الفضاء على الأرجح إلى اتخاذ إجراءاتٍ سريعة ودقيقة عند هبوطهم.
وقال راشيل سايدلر، أستاذ علم الأعصاب المعرفي بجامعة فلوريدا: "إذا مررت بفترة بطء في سرعة المعالجة المعرفية، وصعوبة في التنسيق بين العين والدماغ، فهذه السلوكيات ستكون في خطر".
وصحيحٌ أنَّ قدراً كبيرًا من الطفرات الوراثية لن يُسبِّب مخاطر فورية على رواد الفضاء في رحلاتهم الفضائية، لكنَّه قد يزيد من مخاطر الإصابة بالسرطان مدى الحياة.
إذ يُقدِّر ميسون أنَّ رحلةً إلى المريخ ستُعرِّض روادها لإشعاعٍ أكبر بثماني مرات ممَّا تعرض له كيلي.
وقال تشارلز سوانتون، وهو عالم أحياء متخصص في السرطان بمعهد فرانسيس كريك في بريطانيا لم يشارك في الدراسة الجديدة: "يجب بذل أقصى جهدٍ ممكن للحد من تعرُّض رواد الفضاء للإشعاع في أثناء فترات السفر الطويلة إلى الفضاء".
ومن جانبه، يرى توبول أنَّ الآثار المترتبة على تجربة كيلي مُحبِطة.
إذ قال: "الاستنتاج الرئيسي الذي توصَّلت إليه من هذه الورقة، بناءً على جميع البيانات الموضوعية، هو لماذا قد يريد أي شخص الذهاب إلى المريخ أو الفضاء؟ لأنَّ ذلك أمرٌ مخيف حقاً".
لكنَّ جيري شاي، المتخصص في علم الأحياء الخلوي في المركز الطبي بجامعة جنوب غرب تكساس، كان أكثر تفاؤلاً. وتمسَّك بالأمل في اتخاذ تدابير مضادة من شأنها حماية رواد الفضاء.
وبالفعل يُجرِّب هو وزملاؤه أدوية لتحفيز الخلايا لإصلاح الحمض النووي الذي تضرر من الإشعاع. وقال: "أعتقد أن كل هذه المشكلات قابلة للحل".
من جانبها، بدأت وكالة ناسا التدقيق في كل هذه النتائج للمساعدة في التخطيط للجولة القادمة من البعثات إلى محطة الفضاء الدولية.
وقالت جينيفر فوغارتي، كبيرة العلماء في برنامج البحوث البشرية في وكالة ناسا: "لن تكون (هذه الجولة) تكراراً لما رأيتموه في دراسة التوأم".
وأضافت: "سوف نتعلم من ذلك، وسنكون أذكى بشأن الأسئلة التي نطرحها. هناك الكثير من الأشياء الرائعة التي يجب قياسها. وليس من الواضح ما تعنيه".
ومن جانبها تعتزم سوزان مواصلة دراسة التيلوميرات المحيرة الخاصة بكيلي؛ إذ إنَّ حل هذا اللغز قد يلقي الضوء على الشيخوخة العادية والأمراض التي تسببها.
وقالت: "عندما نكتشف كيفية حدوث ذلك وأسبابه، ستكون النتائج مهمة لرواد الفضاء ولنا، سكان الأرض العاديين".