لم تستطع حمل طفلها الرضيع، بل وصل الأمر إلى أنها كانت تعاني وهي تحاول صعود سلالم منزلها وهي التي كانت تركض قبل بضعة أسابيع على جهاز المشي الكهربائي كل صباح بمعدَّل (1.6 كيلومتر) في كل سبع دقائق.
عرفت الطبيبة البالغة من العمر 34 عاماً في يوم عيد الميلاد أنَّ ثمة خللاً ما في جسدها بالفعل، وكان زوجها الطبيب في مركز مايو كلينيك الطبي بمدينة روتشستر في ولاية مينيسوتا الأميركية مضطراً إلى العمل في ذلك اليوم.
لذا كانت تجلس وحدها في المنزل مع طفليها -أحدهما رضيعٌ يبلغ عمره نحو عامٍ واحد والآخر يبلغ عمره نحو ثلاثة أعوام- وكانت في غاية التعب لدرجة أنَّها لم تستطع وضع الطفلين في سريريهما.
وحين عاد زوجها إلى المنزل بعد وقت نومهما المفترض بمدةٍ طويلة، حملهما وأخذهما إلى غرفتهما في الطابق العلوي. وبعد دخولهما الغرفة، كانت أمُّهما تحاول اللحاق بهما بصعوبةٍ بالغة، إذ استندت إلى حاجز السلم بكلتا يديها، وكانت تبذل جهداً كبيراً لتحريك ساقيها وكأنَّهما مربوطتان بأثقال. فكيف أُصيبت بهذا التعب كله؟.
قصة هذه الطبيبة التي وجدت نفسها فجأة تعاني من حالة مرضية قاسية تصيب الشباب خصوصاً روتها ليزا ساندرز طبيبة وكاتبة أميركية ومؤلفة كتاب " Every Patient Tells a Story: Medical Mysteries and the Art of Diagnosis " في تقرير نشرته بصحيفة The New York Times الأميركية.
إنه ليس كآبة الشتاء ولكن هناك شيئاً يهاجم عضلاتها
خطر على بال الطبيبة الشابة أنَّ السبب هو فصل الشتاء في مينيسوتا، إذ أن الجميع كانوا مُتعبين وربما حتى مكتبئين، ولكن بعد أن وصل الأمر إلى مواجهتها مشقةً عند صعود الدَرج، فكَّرت أخيراً في احتمالية أن تكون مصابةً بشيء ما أكثر من مجرِّد مشاعر سلبية مقترنة بفصل الشتاء.
لذا بعثت برسالةٍ عبر البريد الإلكتروني إلى طبيبها في تلك الليلة أخبرته فيها بأنَّها مُتعَبة وعضلاتها تؤلمها، وأنَّ مفاصلها خشنة لكنَّها لا تشعر فيها بألم، وسألته عمَّا إذا كان قادراً على فحصها، فقال لها إنَّه لا يستطيع؛. فاقترحت عليه إجراء بعض التحاليل على الأقل.
وفي غضون يوم، كانت هذه الطبيبة المُتعبة قد خضعت لسحب عينةٍ من الدم وبدأت فحص نتائج التحليل بعد نشرها على الإنترنت.
وفي البداية، بدا كل شيء على ما يرام؛ إذ لم تكن مصابةً بفقر الدم، وكان مستويا هرمون الغدة الدرقية وفيتامين د طبيعيين. بينما لم تكشف اختبارات الكليتين والكبد عن أي معلوماتٍ مهمة تدل على إصابتها بخلل، ولم يكن هناك أي علامةٍ على وجود خللٍ التهابي. ثم ظهر دليلٌ أخيراً؛ إذ تبيَّن أنَّ مستوى كيناز الكرياتين -وهو بروتينٌ يُفرَز عند إصابة العضلات- مرتفعاً جداً. فهل كان هناك شيءٌ يهاجم عضلاتها؟ .
وبسرعة فحصها الطبيب في مكتبها، فالوقت يداهمها
اقترح طبيبها عليها إعادة الاختبار مرةً أخرى، وحين كان المستوى ما يزال مرتفعاً جداً، طلب طبيبها نصيحةً من أحد زملائها في العيادة التي تعمل بها.
وحين سمع ناثان يونغ طبيب الأعصاب بإصابة زميلته الثلاثينية بالتعب وآلامٍ عضلية، ونتائج تحاليل مختبرية توحي بوجود إصابةٍ عضلية، انتابه القلق، فاتصل بها فوراً.
كانت الطبيبة في مكتبها آنذاك تُجري بعض الأعمال المكتبية. وكان يونغ يعمل في عيادةٍ بمركز مايو كلينيك مُخصَّصةً للاعتناء بموظفي المركز إلى جانب سُكَّان مدينة روشستر، لذا كان قادراً على تقييم حالتها في مكتبها. وبالفعل، طلب منها الذهاب إلى مكتبها لرؤيتها، فوافقت. كان من الغريب أن تكون المريضة هي نفسها الطبيبة في غرفة الفحص الخاصة بها، لكنَّها كانت سعيدةً لقدرتها على استشارة طبيب بخصوص شيءٍ صار يبدو مُثيراً للقلق.
وأبلغته أن الألم مازال مستمراً رغم توقفها عن الركض
قالت الطبيبة ليونغ إنَّ هذا التعب بدأ منذ شهور، وأخبرته بأنَّ حمل رضيعها صار أصعب عليها بكثير فجأة. لقد كان رضيعها في الشهر الثامن من عمره، وصحيحٌ أنَّ حجمه كان كبيراً، لكن ليس إلى الحد الذي يجعل حمله صعباً. وصار ركضها على جهاز المشي الكهربائي أبطأ وأبطأ، واضطُّرَّت إلى التوقف عن الركض تماماً، لكنَّ عضلاتها ظلَّت تؤلمها طوال الوقت. ولا تستطيع تذكُّر إصابتها بتعبٍ كهذا من قبل، حتى في فترة حملها أو حين كانت نزيلةً في المركز.
ما يحدث لعضلاتها أقلقه كثيراً
وبعدما عرف يونغ هذه المعلومات، طلب منها الاستلقاء على سرير الفحص الموجود في غرفتها.
وبدأ -كعادته دائماً- بفحص أعصاب الرأس والوجه، فوجدها طبيعية. ثم اختبر القوة في كتفيها، إذ طلب منها فرد ذراعيها كأجنحة الدجاج وضغط على الجزء العلوي من ذراعيها باتجاه الأسفل، فوجد أنَّ عضلاتها تنضغط بسهولة إلى حدٍ ما، وقد كان ذلك غريباً؛ فحتى مع الألم، كان ينبغي أن تكون المريضة قادرةً على مقاومة هذا الضغط؛ إذ كان الاختبار مُصمَّماً بهذه الطريقة. كانت قوة بقية الجزء العلوي من جسدها طبيعية، لكنَّه لاحظ أنَّ ظهري يديها كانا أحمرين وجافين إلى حدٍ ما، ولا سيما عند مفاصل الأصابع.
ثم انتقل إلى ساقيها، وطلب منها رفع فخذها في الهواء. ثم ضغط على ركبتها وتمكَّن من التغلُّب بسهولة على قوة عضلة الورك ليُجبر ساقها على العودة إلى السرير، وحدث الشيء نفسه في الساق الأخرى. من الطبيعي أن يُصاب المرء بالتعب أو يشعر بالألم، لكنَّ هذا الضعف الفعلي الواضح أثار قلق يونغ.
إنها مصابة بخلل التهابي في العضلات وهو مرض خطير ولكن مازال هناك احتمال إضافي أسوأ
أشار فحص يونغ ونتائج التحاليل المختبرية غير الطبيعية إلى أنَّها مُصابةٌ بنوعٍ من الالتهاب العضلي. ونظراً إلى أنَّ ضعفها كان يقتصر على أكبر المفاصل والكتفين والوركين بالإضافة إلى الطفح الجلدي على يديها، اعتقد يونغ أنَّها مُصابةٌ بخللٍ غير عادي يُسمَّى dermatomyositis أو "التهاب الجلد والعضلات".
ينشأ هذا الالتهاب من إصابة الجهاز المناعي باضطرابٍ يجعله يُهاجم خلاياه بدلاً من الهجوم على الكائنات المُسببة للأمراض. لقد كان ذلك مرضاً خطراً، بل مميتاً في بعض الأحيان، على الرغم من وجود علاجاتٍ فعَّالة له حالياً.
وصحيحٌ أنَّ المريضة شعرت بارتياحٍ لأنَّها تمكَّنت أخيراً من تشخيص هذا التعب والضعف الشديدين، لكنَّ هذا الارتياح كان مصحوباً بقلقٍ جديد، إذ يُصنَّف التهاب الجلد والعضلات عادةً على أنَّه من أمراض منتصف العمر، وحين يُصاب الشباب به، فذلك يعني في بعض الأحيان أنَّهم مُصابون بالسرطان كذلك. لذا كان لزاماً على الأطباء أن يتيقنوا أولاً من أنَّها مُصابةٌ بالتهاب الجلد والعضلات، وإذا كان ذلك صحيحاً، سيجب عليهم فحصها لمعرفة ما إذا كانت مُصابةً بالسرطان أم لا.
لكنَّ يونغ كان سيسافر خارج المدينة في الأسبوع التالي. وبدلاً من الانتظار، أرادها يونغ أن تُتابع العلاج مع إحدى زميلاته -وهي الطبيبة فلوران إرنست المتخصصة في أمراض الروماتيزم- بعد عطلة السنة الجديدة حين تستأنف العيادة العمل. وبالفعل تمكَّنت من مقابلة طبيبة الروماتيزم التي سرعان ما أكَّدت ما لاحظه يونغ بالفعل: فهذه المرأة التي بدت قويةً للغاية كانت ضعيفةً في الواقع.
وقد ذُهِلت من أنَّ فلوران -وهي امرأةٌ صغيرة الحجم للغاية- تمكَّنت بسهولةٍ بالغة من التغلُّب على قوتها المُعزَّزة بالكثير من التمارين. لذا كانت مُصابةً على الأرجح بالتهاب الجلد والعضلات.
ثم اكتشفت أنها مصابة بتضخُّم العقد الليمفاوية
ثم حدث شيءٌ آخر، ففي عطلة نهاية الأسبوع، لاحظت المريضة وجود عقدة ليمفاوية متضخمة على الجانب الأيسر من عنقها. وكانت قد شعرت بها لأول مرة قبل ذلك ببضعة أسابيع، ولكن حين أَرَت زوجها إيَّاها، اعتقد أنَّها ناتجةً من بعض الفيروسات الحديثة.
وعلى مرِّ عطلة نهاية الأسبوع فقط، بدا أن حجم عقدة ليمفاويةٍ أخرى تحت أصابعها قد تضاعف، وصارت قادرةً على رؤيتها في المرآة. وأرَتها لطبيبة الروماتيزم التي شعرت بالعقدة الكبيرة بسهولة. وقالت لها الطبيبة إنَّ هناك حاجةً إلى أخذ خُزعة عضلية لتأكيد تشخيص التهاب الجلد والعضلات، كما أن حاجةً إلى إجراء تصويرٍ بالأشعة المقطعية على الصدر والبطن والحوض للبحث عن خلايا سرطانية مرتبطة بهذا الالتهاب، وأخذ عيناتٍ من العقدة الليمفاوية الموجودة في رقبتها.
الأطباء يجدون ما كانوا يخشونه إنها مصابة بسرطان يصيب بالأساس الشباب.. وهكذا يضعف من مناعتهم
كانت الأيام القليلة التالية غيمةً من اللقاءات والتحاليل. إذ أظهرت صور الأشعة المقطعية التي أُجريت على صدرها العديد من الغدد الليمفاوية المتضخمة بين رئتيها وحولهما. وكشفت كذلك عن وجود كتلةٍ في طحالها بحجم كرة تنس طاولة. ويُعَد الطحال عضواً يعمل كأكبر عقدة ليمفاوية في الجسم، ومعظمه مختبئ تحت الأضلاع الموجودة في الجانب الأيسر العلوي من البطن. وأظهرت صور الأشعة التي أجريت بالموجات فوق الصوتية على الرقبة عُقَداً متضخمة أخرى. وأكدت خزعة العقد الليمفاوية أنَّها مصابةٌ بالسرطان، لقد كان السرطان من نوع داء هودجكن اليمفاوي، وكان هذا سبب تضخم الغدد الليمفاوية والكتلة الموجودة في الطحال، وربما كان السبب في التهاب الجلد والعضلات أيضاً.
داء هودجكن الليمفاوي هو سرطانٌ يُصيب خلايا الدم البيضاء المُصنِّعة للأجسام المضادة. وهو في الأساس سرطانٌ يُصيب الشباب.
لحسن الحظ أن تعاني من مرضين علاجهما واحد
حتى في المراحل المتدهورة منه فإن هذا المرض (داء هودجكن الليمفاوي) قابل للعلاج إلى حدٍ كبير بالعلاج الكيميائي .
وبالفعل، بدأت المريضة العلاج في الأسبوع التالي لأنَّ مرضها كان سريع التطوُّر. وفي نهاية المطاف، لم يكن التهاب الجلد والعضلات بحاجةٍ إلى علاج، لأنَّه كان نتيجةً للسرطان، فعلاج السرطان قد عالج التهاب الجلد والعضلات أيضاً.
لكنَّ طُرق تسبُّب السرطان في هذا الالتهاب ما تزال غير مفهومة جيداً.
أنهت المريضة العلاج الكيميائي في الصيف الماضي، وعادت للعمل في المركز الطبي بدوامٍ جزئي في شهر أغسطس/آب من العام الماضي 2017. ومع سعيها إلى العودة إلى الركض بمعدل ميلٍ في كل سبع دقائق، كانت تستعد للجري في أول سباقٍ لها بعد العلاج في يوم ذكرى مرضها.
وتشعر بأنَّها محظوظة لأنَّ تشخيص مرضها كان سريعاً للغاية. فكونها طبيبية ساعدها في مواجهة هذين المرضين المُميتين، اللذين هاجماها في وقت واحد.