وفقاً لتقرير ضخم شارك في إعداده مئات الخبراء، تُهدد التغيرات المناخية بانصهار أكبر المناطق المتجمدة في العالم.
إذ من الممكن أن تفقد المساحات الجليدية في منطقة هندوكوش الهيمالايا، التي تمتد عبر 8 بلدان في جنوب آسيا من أفغانستان إلى ميانمار، أكثر من ثلث حجمها بحلول نهاية القرن، حتى لو نجحت دول العالم في تحقيق أصعب أهدافها المناخية.
وإذا استمرت انبعاثات الغازات الدفيئة بالمستويات الحالية، فقد تفقد المنطقة ما يصل إلى ثُلثي حجم جليدها.
التغيُّر المناخي يهدد القطب الثالث
وقد نشر المركز الدولي للتنمية المتكاملة للجبال ICIMOD، وهو هيئة حكومية دولية تُعنى بالتغير البيئي والاجتماعي في منطقة هندوكوش الهيمالايا، النتائج يوم 4 فبراير/شباط في تقرير من 600 صفحة. وتناول التقرير مجموعة متنوعة من القضايا، من الأمن الغذائي والمائي وتلوث الهواء والطلب على الطاقة.
ولكن النتائج التي خلص إليها حول تأثير تغيُّر المناخ هي الأخطر بينها.
وقال فيليبس فيستر، من المركز الدولي للتنمية المتكاملة للجبال، والمنسق الرئيسي للتقرير، في تصريح لمجلة Scientific American الأمريكية: "هذه هي الأزمة المناخية التي لم تسمعوا عنها".
يُشار أحياناً إلى منطقة هندوكوش الهيمالايا بـ "قطب العالم الثالث"؛ لأنها تضم الكثير من المساحات الجليدية. فهي موطن لعشرة من أحواض الأنهار الكبيرة وبعض أعلى قمم الجبال في العالم، ومنها جبل إيفرست، الذي يمتد على الحدود بين نيبال والصين.
التقارير المناخية تتجاهل هذه المنطقة
ويعيش حوالي 250 مليون شخص في هذه المنطقة الجبلية، ويقدر الخبراء بأن حوالي 1.65 مليار شخص يستفيدون من المياه القادمة من أنهارها. وتعتمد إمدادات المياه هذه اعتماداً كبيراً على الأمطار الموسمية والمياه القليلة الناتجة عن انصهار الكتل الجليدية، وخاصة خلال موسم الجفاف. وهذا يعني أن تغير المناخ قد يؤثّر على عدد كبير من السكان.
ومع ذلك، يقول الخبراء إن تقارير المناخ العالمي لا تأتي على ذكر هذه المنطقة كثيراً.
وقال جوزيف شيا، خبير الثلوج والجليد في جامعة شمال كولومبيا البريطانية في كندا وأحد المشاركين في كتابة تقرير المركز الدولي للتنمية المتكاملة للجبال: "وكان هذا الأمر يعد ثغرة كبيرة في المعلومات الواردة في التقرير الأخير الذي أصدرته الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ. وأعتقد أنه أصبح هناك تركيز كبير على المنطقة منذ ذلك الحين، ويحاول هذا التقرير تجميع بعض هذه المعلومات".
ارتفاع الحرارة أكبر بهذه المنطقة
وتشير الأبحاث إلى أن حرارة هذه المنطقة ترتفع بمعدل أسرع من المعدل العالمي، كما يشير التقرير، وهو ما يمكن أن يفسر سبب تأثر هذه المساحات الجليدية بقوة في المستقبل.
من المرجح أن يؤدي الوصول إلى معدل الاحترار العالمي بمقدار 1.5 درجة مئوية فقط -وهو الهدف الأكثر طموحاً لاتفاقية المناخ في باريس- إلى ارتفاع معدل الاحترار بنحو 1.8 درجة مئوية في منطقة هندوكوش هيمالايا. ويقول آرون شريستا، المتخصص في التغير المناخي في المركز الدولي للتنمية المتكاملة للجبال وأحد محرري التقرير الجديد، إن الارتفاعات العالية في الجبال قد تشهد ارتفاع في درجات الحرارة يربو عن درجتين مئويتين.
وقال: "إن هذه المنطقة حساسة للغاية".
وأشار بحث حديث أيضاً إلى أن تلوث الهواء المحلي والإقليمي قد يسرع من انصهار الجليد في بعض الأماكن. ويمكن أن يسقط السخام، الذي ينتج عن حرق الوقود الأحفوري أو الكتلة الأحيائية (طاقة مصدرها بقايا النباتات والكائنات الحية)، على الجليد مما يجعل لونه أكثر قتامة. ونتيجة لذلك، فإنه سيصبح أكثر امتصاصاً لأشعة الشمس والحرارة.
مخاطر من توافر المياه العذبة للسكان
ولكن بوجه عام، يثير انحسار المساحات الجليدية في أي مكان في العالم عادة المخاوف بشأن توفر المياه للتجمعات البشرية القريبة منها.
خلال أشهر الصيف الحارة، يتدفق الماء المنصهر من الكتل الجليدية عادة إلى مجرى النهر ويساعد في ملء الجداول والأنهار القريبة. ويساعد تساقط الثلوج خلال أشهر الشتاء على تكوين الجليد مجدداً. ولكن إذا انحسرت المساحات الجليدية بمعدل أسرع من إعادة تكوين الثلوج، فإن الكمية الإجمالية من المياه العذبة التي يمكنها توفيرها ستنخفض في نهاية المطاف، وقد تبدأ الأنهار التي تزودها بالمياه في الانحسار.
من المحتمل أن تكون بعض الأماكن أكثر تضرراً من غيرها في منطقة هندوكوش هيمالايا. وذلك لأن أحواض الأنهار فيها تتغذى من المياه الناتجة عن انصهار الجليد والأمطار الموسمية، وفي بعض الأماكن تكون الأمطار الموسمية هي المصدر الأهم. وذكرت بعض الأبحاث أن تغيُّر المناخ قد يؤدي في الواقع إلى أمطار موسمية أغزر، يمكن أن تساعد في تعويض بعض الجليد المُتلاشي.
وقال شريستا إن الكميات الوفيرة من الأمطار الموسمية قد لا تؤثر كثيراً على تدفق المياه بشكل عام في أنحاء المنطقة في الواقع. فقد تظل بعض أحواض الأنهار الكبيرة، مثل نهر الغانج أو نهر ميكونغ، مستقرة نسبياً عند دراسة الأمر على نطاق أوسع.
لكن بعض الأماكن في منطقة هندوكوش هيمالايا والتي تعتمد بشكل أكبر على المياه الجليدية قد تكون في ورطة.
نهر السند هو الأكثر عُرضة للخطر
وفقاً للوني طومسون، عالم المناخ في جامعة ولاية أوهايو الأمريكية والرئيس المشارك لبرنامج بيئة القطب الثالث هناك، يعدّ نهر السند أحد أكثر الأماكن عرضة للخطر، خاصة حينما ينتهي فصل الأمطار الموسمية؛ إذ يأتي جزء كبير من مياهه -حوالي 40%- خلال موسم الجفاف من المياه الجليدية المنصهرة.
وقال في رسالة عبر البريد الإلكتروني إلى موقع E&E News: "تعد الكتل الجليدية بمثابة بوليصات التأمين التي توفر المياه عندما تكون هناك حاجة ماسَّة لها خلال موسم الجفاف وفترات الجفاف. إن مستوى نهر السند وروافده يرتفع في منطقة الهيمالايا الغربية وهي منطقة شهدت زيادة في درجة الحرارة مؤخراً وانخفاضاً في معدل هطول الأمطار".
وأضاف شريستا أنه من المحتمل أن المجتمعات في المرتفعات العالية، والتي توجد قريباً جداً من الجبال الجليدية، هي التي تعتمد بشكل أكبر على المياه الناتجة عن انصهار الجليد.
وهناك قضايا أخرى ينبغي دراستها كذلك.
مخاطر الفيضانات الكبيرة
في بعض الأحيان، تُخلّف الجبال الجليدية المنصهرة وراءها بِرك كبيرة من المياه، أو البحيرات الجليدية، لأنها تتقلص. ويمكن أن تتدفق البحيرات الجليدية في بعض الأحيان أو تفيض، مما يؤدي إلى تدفق كميات هائلة من المياه في الوديان. ويمكن لتلك الفيضانات الهائلة أن تدمر المجتمعات القريبة.
وقال شريستا: "لا أقول إن هذه الظواهر تتكرر بكثرة، ولكنها تحدث بالفعل، وعندما تحدث، يمكن أن تكون ضارة للغاية"، وقد أثار بعض الخبراء مخاوف من تسارع انصهار الجليد؛ إذ يمكن أن يزداد تشكل هذه البحيرات، وبالتالي زيادة خطر حدوث الفيضانات.
وأشار العلماء كذلك إلى أن تغيُّر المناخ قد يكون له تأثير على كل من الثلوج والتربة الصقيعية -وهي طبقة التربة المتجمدة بشكل دائم والموجودة في بعض أجزاء العالم الباردة- في منطقة هندو كوش هيمالايا. ولكن عندما يتعلق الأمر بالثلج والطبقة الجليدية، فإن بيانات الأقمار الصناعية، وهي الوسيلة التي يستخدمها العلماء لمتابعة الكتل الجليدية في المنطقة، لا يمكنها أن تزودنا بالكثير.
وقال شيا إن هناك حاجة إلى المزيد من المتابعة الميدانية لفهم كيفية تغير هذه الجوانب من القطب الثالث فهماً دقيقاً. لكن من الصعب جمع القياسات على الأرض بصفة مستمرة في الأجزاء الجبلية النائية من العالم.
يمكن أن يكون للتغيرات التي تطرأ على الثلوج والطبقة الجليدية تأثير كبير على المجتمعات البشرية.
فعلى سبيل المثال، يؤدي انصهار الطبقة الجليدية إلى تشرُّب الأرض بالمياه مما يجعلها هشة. وهو الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى صعوبة إنشاء بنية تحتية جديدة مثل الطرق أو السكك الحديدية. ويمكن أيضاً أن يؤدي إلى زيادة احتمال حدوث الانزلاقات الأرضية أو انهيار الصخور.
صورة مقلقة
هذه هي القضايا التي ستتطلب المزيد من الدراسة. ولكن، بوجه عام، يرسم التقرير الجديد صورة لمظهر من مظاهر الطبيعة بدأ بالفعل في التحول، ومن المرجح أن يستمر في التغير حتى في حالة حدوث أفضل السيناريوهات المحتملة لتغير المناخ.
وعند الحديث عن تكيفنا مع الوضع، ستكون إحدى الأولويات الكبرى تحديد المناطق التي يحتمل أن تتأثر مواردها المائية بصورة أكبر من جراء انحسار الكتل الجليدية ومن ثَم التخطيط وفقاً لذلك، وفقاً لما ذكره شيا من جامعة شمال كولومبيا البريطانية في كندا.
وقال شريستا: "هناك عدد من الخطوات التي يمكن اتخاذها للحد من الضرر والتي أعتقد أن باستطاعة المنطقة تنفيذها، ومن واجبها أن تفعل"، ومنها تحسين نُظم التنبؤ بالفيضانات، ونظم الإنذار المبكر لمظاهر الطقس غير الاعتيادية، والحصول على التأمين. إن اتخاذ خطوات للمساعدة في الحد من تلوث الهواء المحلي قد يساعد أيضاً على إبطاء معدل الانصهار، حتى ولو بدرجة بسيطة.
وقال شريستا: "أعتقد أن العالم يجب أن يساعد المنطقة بطريقة ما أيضاً. والأمر يتعلق باستغلال الموارد بصورة مكثفة".
ووفقاً لشريستا، لا تزال الجهود العالمية للحد من انبعاثات الغازات الدفيئة هي أهم إجراء يمكن أن تتخذه الدول.
وأضاف: "إن محاولة تقليل الأضرار إجراء فعّال للغاية؛ إذ كلما تمكنت من تقليلها الآن، قلّت العواقب في المستقبل".