توهجت قطعة صغيرة من الصين للحظة وجيزة، في وقت سابق من العام الجاري، بحرارة بلغت شدّتها حداً شعرت معه الشمس بالغيرة من الأرض، إنها جهاز الاندماج النووي الصيني.
100 مليون درجة مئوية
أعلن العلماء هذا الأسبوع، أن مفاعل التوكاماك الاختباري المتطور فائق التوصيل Experimental Advanced Superconducting Tokamak، المعروف اختصاراً باسم EAST في مدينة خفي الصينية قد تجاوزت حرارته 100 مليون درجة مئوية، بالغاً بذلك رقماً قياسياً في تكنولوجيا الاندماج النووي، ومقرباً البشرية من عصرٍ جديد في الطاقة، بحسب موقع Science Alert الأميركي.
لا تُعد عملية تجميع كميات الطاقة الهائلة الناتجة عن اندماج الذرات أمراً سهلاً، إذ تتطلب تسريع الجسيمات إلى سرعات عالية، وتحديدها في أشعة موجهة بقوة كافية، إما أن تضغطها معاً بشدة، أو أن تصدمها ببعضها بقوة شديدة.
مصادمة الذرات بقوة
وقد أثبتت الآن مؤسسة خفي للعلوم الفيزيائية في أكاديمية الصين للعلوم، أن مصادمة الذرات معاً بهذه القوة أصبحت أمراً ممكناً.
لهذا نحتاج حرارة أعلى من الشمس
في أعماق الشمس تندمج ذرات الهيدروجين معاً في حرارة تبلغ حوالي 15 مليون درجة مئوية (27 مليون درجة فهرنهايت)، ويكون هذا مع وجود جاذبية مركزة تساعد على إتمام الاندماج.
لكن إذا أردنا أن نحقق اندماجاً كهذا على الأرض، فإننا نحتاج إلى فرن تصل درجة حرارته إلى أكبر من ذلك بكثير. إذ نحتاج إلى حرارة تفوق حرارة مركز الشمس بنحو سبع مرات. ثم ينبغي علينا الحفاظ على درجة حرارة هذا الهيدروجين الساخن لفترة طويلة بما يكفي لاستخدامه في إنتاج الطاقة.
إذا تمكنا من تحقيق ذلك، فسنُحقق نفعاً عظيماً، فعلى عكس الانشطار النووي، حيث تأتي الطاقة الفائضة من انشطار ذرات العناصر الكبيرة إلى عناصر أصغر يُنتج الاندماج النووي مخلفات إشعاعية أقل بكثير. ففي الحقيقة كل ما ينتج عن اندماج ذرات نظائر الهيدروجين هو في الغالب الهيليوم.
حدود التكنولوجيا
حاول الباحثون حول العالم إجراء اختبارات بأشكال مختلفة من التقنيات تُمكن من الوصول إلى درجات حرارة كبيرة بما يكفي لتحقيق الاندماج النووي، ما يعني أن EAST ما هي سوى مجرد مؤسسة من ضمن مؤسسات عديدة حول العالم تختبر حدود التكنولوجيا.
تتمثل إحدى الطرق الواعدة للوصول إلى مثل هذه الحرارة في حقن حلقة معدنية ضخمة بالبلازما، مما يبقي على موضع سحابة الذرات المشحونة في مكانها باستخدام مجالات مغناطيسية، ويسمح ذلك بالتسخين المتواصل للذرات، لكن هذه الطريقة تتطلب طرقاً ذكية للحفاظ على حلقة البلازما في مكانها.
أجهزة Stellarator
تستخدم أجهزة استللاريتور Stellarator (أجهزة تستخدم في حصر البلازما باستخدام حقول مغناطيسية) مثل جهاز فيندلشتاين 7-إكس Wendelstein 7-X أو اختصاراً (W7-X) الألماني، في حصر البلازما الساخنة الموجودة داخل أنبوبة ملتوية باستخدام صفوفٍ من الملفات المغناطيسية. تقدم هذه التكنولوجيا طريقة أفضل للتحكم، ولكنها في المقابل تعجز عن بلوغ درجات الحرارة العالية اللازمة لحدوث الاندماج النووي.
تسخين الهيليوم إلى 40 مليون درجة مئوية
تمكن جهاز W7-X في وقت سابق من هذا العام من تسخين الهيليوم إلى درجة حرارة وصلت إلى 40 مليون درجة مئوية، الأمر الذي يُعد تقدماً كبيراً عن المعدلات السابقة، لكنه فشل في الوصول لدرجة حرارة تتجاوز مائة مليون درجة مئوية اللازمة لحدوث الاندماج النووي.
لكن مفاعلات توكاماك النووية الاندماجية مثل المفاعل الصيني EAST تستخدم الحقول المغناطيسية التي تولدها البلازما المتحركة نفسها لتحافظ على استقرارها. وعلى الرغم من أن ذلك يجعل البلازما أقل استقراراً، فإنه يسمح للفيزيائيين برفع درجة الحرارة.
وفي عام 2017، احتفل المفاعل بحدثٍ هام، وهو احتجاز البلازما في حجرةٍ عالية الطاقة لمدة 101.2 ثانية.
يُعد الاحتفاظ بذرات ساخنة لهذه الفترة الطويلة خطوة حيوية في مجال استخلاص الطاقة من البلازما، ولكن تحتّم عليهم بعد ذلك أن يرفعوا درجة الحرارة بما يكفي لدمج الذرات معاً، وإطلاق طاقةٍ تفوق الطاقة المستهلَكة أثناء العملية.
يتطلب تطبيق الخطوات بالشكل الصحيح الكثير من التجارب وصقل الخبرات. وقد اعتمدت إجراءات مفاعل EAST على أشكال متنوعة من التسخين بالتركيبة الصحيحة، ما خلق بلازما ذات كثافةٍ مثالية.
سحابة من الجسيمات المشحونة
كانت النتيجة النهائية عبارة عن سحابة من الجسيمات المشحونة، تحتوي على إلكترونات تزيد حرارتها عن 100 مليون درجة مئوية.
من المُغري أن نشعر بأننا قريبون للغاية من تحقيق مصدر لا متناهٍ من الطاقة النظيفة، وكل حدثٍ كبير يُمثل خطوة هامة نحو تحقيق هذا الهدف.
لكن لا يزال هناك عددٌ من التحديات التي يتحتم علينا التغلب عليها، مثل إمدادات الوقود التي يحتاجها الاندماج النووي.
عقبات في طريق التفاعلات الانصهارية
من الناحية النظرية، فإن المادة التي تغذي التفاعلات الانصهارية، أي الهيدروجين، تُوجد بكميات أكبر بكثير من المواد الهيدروكربونية المتحجرة واليورانيوم.
ولكن للأسف، فلن يؤدي أي نوع من الهيدروجين الغرض، ويفضل استخدام نظير الهيدروجين، التريتيوم، الذي لا يتوافر بكمياتٍ كبيرة. على الأقل ليس على كوكب الأرض.
لا تزال معرفة كيفية أو ووقت تخطي هذه العقبات خاضعة للتكهن.
ومع ذلك، يُعد الوصول إلى درجة الحرارة الصحيحة أمراً مهماً؛ لذلك يستحق الأمر أن نتمسك بالأمل في قدرتنا على الوصول إلى الطاقة الانصهارية (الاندماجية).
لقب مفاعل EAST، منذ نشأته عام 2006 "بالشمس الاصطناعية"، وليس تجاوزاً منا إن قلنا إن هذا اللقب لم يكن سوى مفاخرة مزيفة حتى الآن.
لكن يمكننا أن نقول الآن إنه استحق لقبه عن جدارة.