في حين يرغب البشر عموماً في تجنب الصراع للحفاظ على علاقاتهم الاجتماعية، فإن المجاملة والهروب من النقاش له آثاره السلبية أيضاً.
تقول أستاذة تحليل المحادثات في جامعة لوفبر البريطانية ليز ستوكو لموقع هيئة الإذاعة البريطانية BBC، "في معظم الأوقات، نحاول التعايش مع الناس في وئام. وحتى عندما لا نتفق مع الآخرين، فإننا نحاول إرسال إشارات بأننا نريد أن نحافظ على علاقات ودية معهم، وذلك من خلال كلماتنا ولغة الجسد، وحتى إيقاع حديثنا".
تقول ستوكو، "نحاول تقديم تنازلات، ونراقب محادثاتنا باستمرار لمحاولة وضع الأشخاص في موقف يسهل عليهم الاتفاق معنا".
ولكن تجنب الاختلاف في العمل ربما يكون سلوكاً خاطئاً
نميل بشكل خاص إلى تجنب الخلاف في العمل؛ فمن مّا يريد بدء نزاع مع شخصٍ يضطر إلى الجلوس بجواره 8 ساعات يومياً؟
وفي حال كان هذا الزميل رئيسك في العمل، يصبح إبداء المخالفة والاعتراض أمراً غير محبذٍ على الإطلاق.
لكن ربما يكون هذا سلوكاً خاطئاً تماماً، بحسب رأي الكاتبة إيمي إي غالو، كاتبة "دليل التعامل مع الصراع في العمل" لمجلة Harvard Business Review.
تقول غالو، "يعتقد كل شخص أنه يريد العمل في العالم المثالي المسالم الذي يتفق فيه مع الجميع، لكن إذا لم نختلف، فإننا لن ننتج عملاً جيداً، ببساطة هذا أمرٌ غير ممكن".
فالعمل الناجح يحتاج للاختلاف، والتقدم لا يتحقق دون نقاش
يعني تنوع الأفكار أن الناس سوف تختلف.
تقول غالو، "أرى طوال الوقت مؤسسات تتحدث عن احتياجها لوجهات نظر متنوعة، وبيئات عمل شاملة، وعندما يواجهون الاختلافات، فإنهم يقولون بشكل عام: لا نريد أن نسمع آراء مختلفة. لكن هذا أمر مهم لإبراز وجهات النظر المختلفة، ومن أجل تأسيس عمل أكثر نجاحاً".
ففي العلوم، على سبيل المثال، لا تُختبر النظريات الجديدة عن طريق التجربة فحسب، وإنما من الخلال الطعن فيها بواسطة باحثين آخرين أيضاً.
يعتقد البروفيسور ستيوارت فيرستين من جامعة كولومبيا أن هذه التحديات حيوية؛ حتى لو كان هو على الطرف المستقبِل.
ويضيف، "قدمنا في عدة مناسبات مخطوطات باليد معدة للنشر، ووجد أحد المراجعين بعض العيوب البارزة فيها. إنني شاكر جداً لهذا، لأنه كان من الممكن أن أستمر وأنشر هذه المخطوطات، وسأكون مخطئاً للغاية أمام الجميع. الآن أنا فقط وهذا المراجع من نعرف أنني أحمق".
يمكنك اعتبار أن العلم بمثابة نظام لتسخير عملية الاختبار هذه.
العلماء يختلفون في المعمل ويتفقون في الحانة
"العلم هو هيكل يهدف إلى السماح بالاختلاف"، حسبما يقول فيرستين.
ويضيف، "يمكنني تذكر الذهاب للاجتماعات مع أشخاص يصيحون في بعضهم البعض، لكنهم بعد ذلك يذهبون إلى الحانة ويحتسون الشراب معاً، وهذه هي الطريقة التي من المفترض أن يجرى بها الأمر. هناك علاقة احترام بالرغم من مدى اختلافك مع شخص ما".
ربما تعتقد أنك صلب بما يكفي لتحمل ثقافة التحدي المستمر تلك. بصرف النظر عن مدى عمق التزامنا بهدف مشترك، سواءً كانت أفكاراً أكثر ابتكارية، أو حل أفضل للمشكلة، أو مجرد السعي العلمي للحقيقة؛ لا أحد يحب أن يكون مخطئاً.
وهكذا يمكنك الاستفادة من غرورك وعنادك
دعني أحاول إقناعك بأن الاختلاف يستحق الألم، حسبما تقول الكاتبة تقول تيماندرا هاركنيس في مقالها على موقع هيئة الإذاعة البريطانية BBC.
أولاً، يختبر الاختلاف أفكارك في مقابل الأفكار المنافسة. وهذا أمر جيد كما تقول كلير فوكس من أكاديمية الأفكار Academy of Ideas.
تقول فوكس، "إن ذلك يساعدك إما في تحسين الجوانب والنقاط التي تختلف مع الآخرين بسببها، لأنك ستحاول وستشارك في المستوى الأعلى مع أفضل الحجج القادمة من المعارضين لك، ومن ثم فعليك أن تكون أفضل في حجتك الخاصة. أو -لن تعرف أبداً- ربما تغير رأيك".
ثانياً، يمكنك استغلال جانبك المغرور بدلاً من محاولة إنكاره.
يقول الكاتب جوناثان روش "التحيز والإصرار على الرأي والعناد" هم وقود صياغة الأفكار الأفضل.
ويضيف، "لا تريد أن يسير الناس في الغرفة وهم لا يشعرون باقتناع قوي بالأمور. كل ما تريده هو أن يسلموا آراءهم كي يراجعها الآخرون. ثم تقوم أنت باستغلال طاقة يقينهم، وتحيزاتهم، واختلافهم".
ثالثاً، إن مراوغات الفكر الإنساني التي تبدو وكأنها عيوب؛ ربما تتحول إلى مزايا. انظر إلى تأكيد التحيز، وهو ميلنا للبحث بقدر أكبر من الاجتهاد عن دليل يؤكد رأينا الحالي.
هكذا تكون النتيجة إذا لم تتناقش من يخالفونك الرأي
"إذا كنت وحدك، أو كنت تتحدث فقط مع أشخاص يتفقون معك، فمن المحتمل أن النقاشات سوف تتراكم لصالحك"، حسبما يقول عالم الإدراك هوغو ميرسيير، الذي يضيف قائلاً: "وربما يؤدي هذا إلى الإفراط في الثقة وإلى الاستقطاب".
كتب ميرسيير كتاب "لغز العقل"/ The Enigma of Reason بالتعاون مع البروفيسور دان سبيربر، وهما يؤكدان بالأدلة أن نقاط الضعف الظاهرة في الفكر الإنساني تصبح نقاط قوة عندما نناقشها في مواجهة الآخرين. إذ إننا نقيم حجج الآخرين بشكلٍ أفضل من تقييمنا حججنا الخاصة.
يقول ميرسيير "إذا كنا نخوض مناقشة حسنة النية مع أشخاص ينتمون للطرف الآخر من الطيف السياسي، فإنهم سوف يدمرون حججك الضعيفة، وسوف يمنحونك حججاً تتعلق بالطرف الآخر، وينبغي أن تنتهي الأمور على ما يرام". فالمناقشة هي الموطن الطبيعي للعقل الإنساني، بحسب رأي ميرسيير وسبيربر.
ولكن مهلاً، هذه هي شروط النقاش الجيد!
في حالة كوننا وحدنا، فإننا نقع بسهولة فريسة للتفكير الكسول وجمع الحجج التي تعزز افتراضاتنا.
لا يمكنك اختبار الأفكار إلا عن طريق إعداد نفسك لتحدي إقناع الآخرين، والعثور على نقاط الضعف في حججهم، والسماح لهم بالبحث عن الأخطاء في حججك.
تقول هاركنيس، "هذا هو سبب تأكيدي أنك تدين لنفسك، وللأشخاص الذين تعمل معهم، وللمجتمع ككل، بالانخراط في مناقشة جيدة مرة يومياً على الأقل. وأعني بـ (جيدة) أنها صارمة ومحترمة على حد سواء".
كما تقول غالو "لا يجب على الاختلاف أن يكون فظاً، أو أن يكون لئيماً. يمكنك أن تختلف بتعاطف ورحمة ولطف".