أنقذت اللقاحات الملايين وربما آلاف الملايين من الأرواح. وإلى جانب المعقمات والتخدير، تعتبر اللقاحات واحدة من أعظم الإنجازات الطبية.
وتحصّن اللقاحات التي تعطى لكل طفل منذ الأشهر الأولى لولادته، تحصنه ضد عدد كبير من الأمراض، مثل الحصبة وشلل الأطفال والتهاب الكبد الفيروسي وغيرها
ومع ذلك، إن أكثر ما يثير القلق في العقود الأخيرة هو بروز توجه تقوده أقلية كبيرة من الأشخاص في البلدان الغنية في العالم يدعو إلى معارضة استخدام اللقاحات. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الحركة المناهضة للقاحات كانت فكرة دونالد ترمب، حسب صحيفة The New York Times الأميركية.
يجب أن يحصل عليه أغلب السكان
كي يكون اللقاح فعالاً، لابد أن يحصل عليه 95 % من السكان، وهي ظاهرة تعرف باسم "مناعة القطيع". وإذا اتخذ عدد قليل من الأولياء قرار عدم حصول أطفالهم على اللقاح بسبب خطر مزعوم (الذي غالباً ما يكون زائفاً)، فإنهم يعرضون أعداداً كبيرة من الأطفال لخطر الإصابة بالمرض الذي من المفترض أن يحميهم منه اللقاح، حسبما استعرض مايكل كينتش في كتابه "Between Hope and Fear: A History of Vaccines and Human Immunity"
نصف الأطفال كانوا يموتون قبل قرنين فقط
إلى غاية القرن التاسع عشر، كانت الأمراض المعدية مهيمنة على حياة البشر، فقد توفي ما يقارب 50 % من الأطفال الذين لا تتجاوز أعمارهم الخامسة، وكان جميعهم تقريباً مصابين بالعدوى.
وقد أدى هذا التعرض الطويل للأمراض على مدى قرون إلى حدوث بعض المقاومة، ولكن الإمكانيات المدمرة للأمراض المعدية قد ظهرت عندما وصل الأوروبيون إلى ما يسمى بالعالم الجديد. فعلى سبيل المثال، تشير التقديرات في كل من كوبا والجزر المحيطة بها إلى أن ثلث السكان قد لقوا حتفهم بسبب مرض الجدري الذي بدأ سنة 1518، في حين توفي بقية الناجين بسبب الحصبة سنة 1529.
والفضل يعود إلى إدوارد جينر لاكتشافه فكرة اللقاح.
أخذ جينر عينة من مرض جدري البقر واستعمله كلقاح ضد الجدري، إلا أنه كان معروفاً في تلك الفترة أن الناجين من الجدري كانوا محصنين ضد الكثير من الأمراض المعدية الأخرى.
وبعد أبحاث وتجارب استنتج جينر أن أخذ مواد من جلد المصابة وحقنها بشخص آخر لإصابته بنفس المرض سوف يولد مناعة مستقبلية ضد مرض الجدري وذلك لأن هذا المرض هو مشابه ولكنه أقل خطورة. طوّر جينر اللقاح الأول مستند على هذه النتائج؛ بعد جهد طويل (لكن ناجح) قام بحملة تطعيم استمرت إلى أن أعلنت منظمة الصحة العالمية استئصال الجدري من العالم في عام 1980.
وقد ذكر كينتش، وهو عالم أبحاث ويعمل الآن في جامعة واشنطن في سانت لويس وعمل أيضاً على أبحاث في علم المناعة والسرطان ونشر كتاباً في السابق عن أزمة تطوير الأدوية، هذا التاريخ بتفاصيل علمية. وعلى الرغم من أن الفضل يعود إلى إدوارد جينر لاكتشافه اللقاح، إلى أن هناك آخرين استخدموا التقنية نفسها وكانت ناجحة.
الصينيون والعثمانيون عرفوا اللقاحات
كان الصينيون والعثمانيون يستخدمون "التطعيم" لعدة قرون، وهو إجراء يتم فيه حقن أشخاص بمرض الجدري داخل الأنف أو تحت الجلد. وقد توفي بعض المرضى الذين تلقوا التلقيح، ولكن عدداً قليلاً منهم أصيبوا بالمرض بالطريقة التقليدية.
العدوى ناتجة عن جراثيم
ركز كتاب كينتش على سرعة تأثير اللقاح وفوائده في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث اكتشف في نهاية الأمر أن العدوى كانت ناجمة عن كائنات دقيقة وليس بسبب التلوث الذي يطلق عليه اسم "ميازما". ويقول كينتش: "كما هو الحال مع الكثير من العلوم البيولوجية، فإن هذه القصة تبدو معقدة، لأنها تضم العشرات من العلماء، كان الكثير منهم يسعون لكسب الشهرة على حساب غيرهم عوضاً عن الصعود بفضل مجهودهم الشخصي، بالإضافة إلى أن العديد من الاكتشافات كانت مجرد ضربة حظ".
إذن لماذا يعارض أطباء اللقاح؟
يزعم الطبيب البريطاني أندرو ويكفيلد، الذي زعم أن هناك صلة بين لقاح (الحصبة والنكاف والحصبة الألمانية) والتوحد. وقد كشف كينتش أن القلق الذي يعتري جميع الناس بشأن اللقاحات يكاد يكون قديماً قدم اللقاحات نفسها. ففي سبعينيات القرن الماضي، ظهر شك واسع النطاق في بريطانيا بشأن سلامة اللقاح الثلاثي ضد الخناق والكزاز والسعال الديكي، حسب الفصول الأخيرة، التي تُعتبر الأهم في الكتاب، حول الحركة المعاصرة والمناهضة للتلقيح وعواقبها المميتة
وهناك عوامل وراثية وبيئية وحتى نفسية قد تسهم في الإصابة بالتوحد وفي نمو الدماغ بوقت مبكر، ولكن التطعيم -بالتأكيد- ليس منها.
وكان الدكتور غوردون ستيوارت أحد أبرز المعارضين لهذا اللقاح، وذهب إلى حد القول إن مرض الإيدز لم يكن بسبب فيروس نقص المناعة البشرية بل السلوك الجنسي المثلي. لقد كان لرأيه تأثير كبير على رئيس جنوب إفريقيا تابو إيمبيكي، الذي تسببت سياساته المتعلقة بالإيدز في 365 ألف حالة وفاة كان من الممكن تلافيها، حسب تقرير صادر عن كلية هارفارد للصحة العامة.
وعلى الرغم من الحملات النشطة لتشويه سمعة ويكفيلد وغيره من معارضي اللقاحات، لم تشهد الحركة المناهضة للتلقيح أي علامة تنبأ بضعف موقفها. وخلال العقود الماضية، عادت أمراض مثل الحصبة إلى الظهور في البلدان التي كانت تظن أنها تمكنت من القضاء عليها تقريباً، مع عودة آثارها الوخيمة والمميتة. (أبلغت منظمة الصحة العالمية عن تسسجيل 41 ألف حالة بالحصبة في أوروبا خلال الأشهر الستة الأولى من هذه السنة، من بينها 37 حالة أدت إلى الوفاة، وذلك مقارنة مع سنة 2016 التي سجلت 5273 حالة فقط.
وترمب يدخل على الخط.. الرئيس الأميركي مؤيد كبير للحملة ضد اللقاحات
إذا كان هناك شيء واحد مؤيد لحملة اللقاح وخصومهم يتفقون على الأرجح، هو أن دونالد ترمب قدم دفعة كبيرة لقضية مكافحة اللقاح.
في أكثر من 20 مناسبة ، قام ترمب بالتغريد حول وجود صلة بين اللقاحات ومرض التوحد، وهو أمر يقول خبراء في مؤسسة الصحة العامة الرائدة في الحكومة إنه غير صحيح. كما كرر هذا الادعاء خلال مناظرة أولية للحزب الجمهوري، وهي ملاحظة رفضها مختصون كثر.
قبل الانتخابات، التقى ترمب بأربعة من حملة المناهضين البارزين لمكافحة اللقاح في حملة لجمع التبرعات في فلوريدا بينهم الطبيب البريطاني المحظور أندرو ويكفيلد، ومارك بلاكسيل، رئيس تحرير موقع Age of Autism على الإنترنت، غاري Kompothecras، مقوم العظام وجينيفر لارسون، وهي رائدة أعمال قامت بحملة ضد استخدام اللقاحات في ولايتها الرئيسية بولاية مينيسوتا.
احتفل النشطاء بعد فوز ترمب بالانتخابات والتقى الأخير مع آخر مناضلي مكافحة اللقاح، روبرت إف كينيدي جونيور (ابن السياسي الأميركي روبرت كينيدي الذي اغتيل عام 1968).
وطلب ترمب من كينيدي القيام بحملة ضد اللقاحات
بعد ذلك أخبر السيد كنيدي أعضاء مكتب محاماة البيئة أنه سيأخذ إجازة لرئاسة لجنة استشارية حول القضية بناء على طلب الرئيس المنتخب. وقال للصحافيين "السيد ترمب لديه بعض الشكوك حول سياسات اللقاح الحالية ولديه تساؤلات حولها".
بعد ظهور أخبار الاجتماع، كتبت لارسون على موقع Age of Autism على الإنترنت: "الآن بعد فوز ترمب، يمكننا أن نشعر بالأمان عند مشاركة السيد ترمب مع دعاة التوحد في أغسطس. قدم لنا 45 دقيقة وكان مطلعاً على قضايانا بقوة. قال مارك [بلاكسيل] "لا يمكنك أن تجعل أميركا عظيمة مع كل هؤلاء الأطفال المرضى والقادمين". هز ترمب رأسه ووافق"، حسب صحيفة Independent البريطانية.
والحرب حول اللقاحات تزداد سخونة
ظهر في هذه الأثناء روبرت دي نيرو الممثل والمنتج الأمريكي، الذي عرض 100 ألف دولار (73.880 جنيهاً إسترلينياً) لأي شخص يمكنه تقديم دراسة تظهر أن اللقاحات آمنة للأطفال. أثار دي نيرو، الذي لديه ابن مصاب بالتوحد، جدلاً في العام السابق (2017) عندما كان قد رتَّب لمهرجان ترايبيكا السينمائي، الذي يديره، لعرض فيلم ويكفيلد Vaxxed، الذي يسعى إلى إثبات العلاقة بين اللقاحات والتوحد، وفضح الغش المزعوم.
كان دانيال سمرز، طبيب الأطفال من نيو إنغلاند، من بين أولئك الذين سارعوا إلى المطالبة بالجائزة، كتب في "الواشنطن بوست": "لقد اقتربت من عقدين منذ تخرجي في كلية الطب، وفي ذلك الوقت قمت بتحصين الآلاف من المرضى. لم أواجه مرة واحدة حالة يمكن فيها ربط هذه التحصينات مع مرض التوحد".
وأضاف: "من غير الممكن أن تكون كلمتي وحدها كافية لجمع 100 ألف دولار، يسعدني تقديم الكثير من الدراسات التي تدعم سلامة اللقاحات. لا يبدو أن الدراسات تسوي مسألة الناشطين المناهضين للقاحات، لكنها أفضل دليل يمكننا الحصول عليه".
تم إدانة ويكفيلد عام 2010 من قبل المجلس العام للطب في المملكة المتحدة من ثلاثين تهمة بما في ذلك عدم الأمانة وإساءة معاملة الأطفال ، بعد فترة وجيزة من تراجع مجلة "لانسيت" الطبية عن دراسة عام 1998 التي روجت فيها مزاعمه عن لقاح MMR (الحصبة والنكاف والحصبة الألمانية) وقال محرر المجلة في ذلك الوقت إن التصريحات الواردة في المقال "كانت خاطئة تماما".
قبل عقد من الزمان انتقل إلى تكساس حيث استمر في الترويج لنظرياته. يعتقد مسؤولو الصحة في ولاية مينيسوتا أنه مسؤول جزئياً عن تفشي للصحبة في عام 2017 ، وهو الأسوأ منذ عقود ، بين الجالية الصومالية-الأمريكية في مينيابوليس.
الاحتباس الحراري والسفر العالمي يزيدان الأمراض المُعدية
يزيد الاحترار العالمي والسفر حول العالم من خطر الإصابة بالعديد من الأمراض المعدية في المستقبل، على غرار الفيروسات النزفية مثل فيروس إيبولا وحمى لاسا وزيكا وغيرها من الأمراض، فضلاً عن إمكانية انتشار وباء أنفلونزا خطير. من الضروري نشر الوعي بأهمية التلقيح، وفي المقام الأول لا بد من تأكيد الحاجة لتوفير معدلات امتثال عالية. ولدى كينتش اقتراحات عملية حول كيفية القيام بهذا الأمر، كما شدد على أهمية الدور الذي يجب أن تلعبه الحكومات في تحفيز شركات الأدوية لإجراء المزيد من الأبحاث حول اللقاحات. وفي الوقت الراهن، تجني الشركات المصنِّعة للأدوية أرباحاً خيالية من بيع أدوية السرطان.
إن هذا كتاب مهم، لكن ما يشوبه هو ميل مؤلفه عند سرد الحقائق العلمية إلى حشو بعض التفاصيل التي كانت هامشية في كثير من الأحيان. فعلى سبيل الذكر، نحن لا نحتاج إلى أن نعرف أن ليدي غوديفا قد امتطت حصاناً وهي تجوب شوارع كوفنتري عارية في العصور الوسطى، لمجرد الإشارة إلى أن الصحافي بريان دير، الذي ساعد في كشف مزاعم ويكفيلد، قد التحق بتلك الجامعة بعد أكثر من 900 سنة.
حتى وإن كان الكتاب يحتاج إلى مراجعة شاملة، فإن أكثر ما أخشاه أن يفشل الناس الذين هم في أمسّ الحاجة إلى قراءته، وأولئك الذين تعتريهم الشكوك حول قيمة التلقيح وسلامته، في إثبات العكس. وكلما كانت قناعاتنا أقوى، زاد ترددنا في تعريض أنفسنا لأدلة قد تتناقض مع تلك القناعات. وقد ندفع جميعاً ثمناً باهظاً لذلك.