كبيرة كأميركا، أو صغيرة بحجم سويسرا.. الدول تضع السلاح بأيدي مواطنيها، ولكن كيف يستعملونها؟
يقع حادث إطلاق نار في مدرسة أو متجر أو غيرها في الولايات المتحدة.. تمتلئ شاشات التلفاز حول العالم بمشاهد الخبر وتداعياته، وتخرج المظاهرات منددة، ويطرح المحللون تفسيرات ويوصون بحلول، ويطلق السياسيون الوعود، لكن يبقى الدستور الأميركي يحمي حق امتلاك الأميركيين للسلاح.
وامتلاك السلاح في الولايات المتحدة غالباً للحماية، لكنه يتجه للقتل الفردي والجماعي، أما في بلاد أخرى فإنه يمثل تقليداً قديماً، قد يقتل، لكن ذلك يحدث كاستثناء.
ففي سويسرا بلد الحياد -على سبيل المثال- يمتلك السويسريون أسلحة شخصية بمعدلات عالية، تجعلهم الأكثر في هذا المجال بعد الولايات المتحدة.
وقد أظهر مسح أجرته منظمة "Small Arms Survey"، ومقرها سويسرا -ضمن دراسة على نسبة امتلاك البنادق بين المواطنين في دول العالم أجريت العام الماضي- أن حمل البنادق هو الأكثر انتشاراً في الولايات المتحدة، بعدد 112.6 بندقية لكل 100 أميركي، ما يعني أن كل مواطن لديه أكثر من بندقية. وكانت المفاجأة في ذلك المسح أن سويسرا التي تعد أحد أكثر بلدان العالم رفاهية وأمناً، جاءت في المرتبة الرابعة، مع 45.7 بندقية لكل مائة مواطن.
ومع تقارب الأرقام والثقافات إلا أنه شتان بينهما، حيث يمتلك كلاهما الكثير من السلاح، لكنهما لا يستخدمانه بالشكل نفسه.
فمن السهل أن تسير في الولايات المتحدة بالسلاح في الشارع، وتدخل في مشاحنة، ثم تُخرج سلاحك لتفرغ ما فيه من طلقاتٍ في رأس خصمك، أما في سويسرا، فالجميع يمتلكون السلاح، لكن الأمر مختلف كثيراً.
تجارة السياسة والموت.. دستورية
منذ أن تولى ترامب منصب الرئاسة بدأ أصحاب المصالح السياسية ومجموعات الضغط (اللوبيات) بفرض نفوذهم السياسي، ومن هؤلاء اللوبيات مجموعة NRA، المعروفة اختصاراً بلوبي السلاح، وهي واحدة من أشهر مجموعات الضغط السياسي في الولايات المتحدة، ويرتبط نشاطها بتجارة الأسلحة، وتمارس دورها عن طريق تمويل بعض مرشحي الكونغرس، حتى إذا فازوا فإنهم يساعدون في تمرير القوانين التي تحتاجها NRA. وتقوم فلسفة هذا اللوبي على نص في الدستور الأميركي، ففي التعديل الثاني للدستور المعنون بحق حق اقتناء الأسلحة يقول الدستور:
(حيث إن وجود ميليشيا حسنة التنظيم ضروري لأمن أية ولاية حرة، لا يجوز التعرض لحق الناس في اقتناء أسلحة وحملها).
ولكن أزمة إطلاق النار في إحدى المدارس بفلوريدا مؤخراً، والتي راح ضحيتها 17 طالباً كشفت عن مدى خطورة قوانين حمل السلاح في الولايات المتحدة؛ ما دفع بطلاب المدرسة التي تعرّضت للحادث للخروج إلى الشارع، في تظاهرات تطالب بتغيير القوانين التي تحكم عملية تملك السلاح.
وبعدما تعرضت مطالبات الطلاب للتجاهل، صعدوا احتجاجاتهم عبر تنظيم مؤتمرات صحفية وإصدار بيانات تطالب بالاستجابة؛ حتى توجهوا للمبنى الرئيس للكونغرس لتقديم مطالبهم، بل ودخل بعض الإعلاميين المحسوبين على الحزب الجمهوري -حزب ترامب- ومجموعة NRA على خط المواجهة بمهاجمة تلك المطالب، مثلما حدث مع الإعلامية لورا إنجرام التي تقدم برنامجاً على قناة فوكس نيوز، والتي هاجمت أحد الشباب المشاركين في الحملة، وهو دافيد هوج، واصفةً إياه بالفاشل الذي لم ينجح في دخول أية جامعة.
فما كان من هوج إلا أن كتب تغريدةً على تويتر، مشيراً فيها إلى أسماء الشركات التي تدعم برنامج لورا، مطالباً مسؤوليها بالتوقف عن دعمها، وهو ما حدث في النهاية، بعد رسائل المؤيدين، ثم تبع ذلك إيقاف برنامج إنجرام لبعض الوقت.
هذا ما يحدث في عالم الأسلحة في الولايات المتحدة، التي تبلغ كمية الأسلحة المملوكة لمواطنين فيها، بحسب بعض التقديرات 300 مليون قطعة سلاح…
في المقابل وفي نقطة أخرى من العالم، هناك دولة يمتلك جميع مواطنيها تقريباً أسلحة.. لكن بمفهوم آخر.
جزء من التراث والتاريخ!
يعد أفراد الشعب السويسري من أكثر شعوب العالم امتلاكاً للسلاح، حيث قدرت إحدى الإحصائيات أنه من بين الـ8 ملايين شخص المكونين لنسيج سويسرا، هناك مليونا قطعة سلاح منتشرة بين المدن السويسرية.
لكن الأمر هنا له جانب تاريخي، حيث إن هناك مهرجاناً يقام في سويسرا، في شهر سبتمبر/أيلول من كل عام، يشارك فيه المراهقون بين سن الثالثة عشرة والسابعة عشرة في إطلاق النار على أهداف ثابتة بغرض التعلم، ويرجع تاريخ تنظيم هذا المهرجان إلى العام 1600م، أي أنه منذ عدة قرون. وقد كان المهرجان مقتصراً على الشباب فقط حتى العام 1991، حين سمح للفتيات بالمشاركة فيه، وقد فازت به في العام 2011 فتاة سويسرية.
"أسلحة البيوت" أنقذتها من حربين
لدى أغلب مواطني سويسراً قناعة، مفادها أن كل مواطن في الدولة هو جندي في الجيش، وأن وجود السلاح في المنزل قد يكون مفيداً، إذا ما تعرَّضت الدولة للغزو، وحينها سيكون الشعب قادراً على المواجهة.
ويخبرنا التاريخ أن تلك النظرية كانت فعالة بشدة، حيث إن سويسرا نجت من الدخول في أتون الحرب العالمية، بسبب معرفة جيران سويسرا أن الجميع هناك يمتلك أسلحة، وهو أمر غير مفيد، إذا ما أراد أحدهم أن يقوم بالغزو، كما أنه في الحرب العالمية الثانية، وعلى الرغم من وقوع ألمانيا في نقطة قريبة جداً من سويسرا، إلا أن هتلر لم يغزُ سويسرا بسبب ذلك.
انخفاض معدلات القتل
وعلى الرغم من الحق القانوني للأفراد في امتلاك الأسلحة، تظهر الإحصاءات انخفاضاً ملحوظاً في معدل ارتكاب جرائم القتل في سويسرا، خلال الفترة ما بين 2009-2016، وأن معظم تلك الحوادث تقع بين أشخاص قريبي الصلة جداً ببعضهم البعض، فثلثا الحالات تقع في إطار علاقة إما قرابة أو زواج، و25% من تلك الحالات تقع بين المعارف و27% بين أشخاص غرباء.
منعطفات مهمة غيَّرت القانون
وكانت حادثة القتل الجماعي في سويسرا في العام 2001 بمثابة منعطف مهم في مسألة تملُّك السلاح في سويسرا، حيث دخل أحد المسلحين إلى برلمان مدينة زوج، وقتل 18 شخصاً وأصاب 14. وقد أعقبت تلك الحادثة مطالبات بتغيير قانون تملك السلاح، وجرى تصويت حينئذ، لكن مؤيدي الحق في تملك السلاح استطاعوا الانتصار وإبقاء الوضع على ما هو عليه.
لكن ما حدث بعد ذلك في 2006 كان نقطة تغير كبرى، حيث قُتلت المتزلجة الأولمبية كورنين ري بيلت هي وأخوها على يد زوجها السابق. وقد كان لتلك الحادثة أثر كبير في تغيير قوانين استخدام السلاح في سويسرا، فلم يتم منع تملك السلاح، لكن ما تغيّر هو كيفية الاستخدام. إذ لم يعد مسموحاً بحمل السلاح في الشارع أو في الأماكن العامة للمدنيين، وصار ذلك مقتصراً على أفراد الشرطة وأفراد الأمن.
وفي 2007 أقر المجلس الفيدرالي في سويسرا قانوناً يمنع حصول أي من ضباط الجيش الذين تركوا الخدمة على ذخيرة لأسلحتهم التي احتفظوا بها بعد نهاية الخدمة.
بالإضافة إلى أن القانون يمنع كل من عُرف عنه ارتكاب جرائم أو تعاطيه للكحول أن يحمل سلاحاً. كما أن بيع الأسلحة يكون عن طريق وكالات معتمدة خاضعة لرقابة الحكومة.
لكن ذلك التقنين نتج عنه تغير غريب، حيث انخفضت معدلات القتل باستخدام الأسلحة النارية إلى 20% من إجمالي عمليات القتل، وصارت معظم الجرائم ترتكب باستخدام الأسلحة البيضاء (السكاكين).
يقول أستاذ علم الجريمة بجامعة زيوريخ مارتن كيلاس، إن مخاوف الحصول على سلاح في سويسرا لا تتعلق بالخوف من حدوث جرائم جماعية كتلك التي تحدث في الولايات المتحدة، وإنما يُخشى من استخدامها في الجرائم الأسرية، حيث إنه كثيراً ما يحدث أن يقتل أحدهم زوجته وأبناءه ثم ينتحر؛ لاسيما أن سويسرا هي الدولة الأكبر من حيث معدلات حدوث العنف باستخدام السلاح في أوروبا.
وأضاف كيلاس، أن الأطفال منذ بلوغهم الـ12 يصبحون جزءاً من أندية تعلم الرماية بالأسلحة، ويُغرس فيهم منذ الصغر ثقافة المسؤولية المجتمعية حيال حمل السلاح وأغراضه.