عكس ما قد تعتقد من فإنك إذا طلبت إجازة من العمل لفترة مؤقتة بسبب وفاة قريب لك أو لرعاية طفلك ، فإن مديرك الذي مر بمثل هذه التجربة سيكون على الأرجح أقل تعاطفاً وتفهُّماً لمعاناتك.
لا تتفاجئ بهذه الحقيقة فإنها ليست اجتهادا ولكن حقيقة علمية أثبتتها تجارب ميدانية.
المنطق التقليدي يقول أن المدير الذي مر بتجربة فقدان زوجته أو أبيه مؤخراً هو الأكثر تفهماً، وأن المديرة التي أنجبت أطفالاً واحتاجت وقتاً لرعايتهم بعد الولادة هي الأكثر تعاطفاً مع من يمر بتجربة شبيهة لها.
لكن كالبحث والاستبيان اللذين نُشرا في مجلة الجمعية الأميركية لطب النفس، جاءا بنتائج مفاجئة للغاية، وتمثل مفارقة في أنه ، فإن الأشخاص الذين نسعى للحصول على مشورتهم أو الراحة منهم، قد يكونون أقل احتمالاً لتوفيرها إذا كانوا قد واجهوا معاناة أو فشلا مشابها.
ماذا يقول البحث؟.. لاتحاول نيل تعاطف هؤلاء
خلال الاستطلاع والتجارب التي قام بها الباحثون، وجدوا أن الناس الذين مروا بنفس التحدي أو التجربة سابقاً (مثل التعرض للطلاق أو الاضطهاد الوظيفي أو الخسارة المالية)، كانوا أقل استعداداً لإظهار التعاطف مع إنسان يمر بالظروف أو التجربة نفسها، مقارنة مع الذين لم يمروا بهذه التجربة من قبل أو يختبروها بأنفسهم!
وقد توصل البحث إلى أن المشاركين الذين عانوا سابقاً تجربة مزعجة عاطفياً (على سبيل المثال، الاعتداء)، قد قاموا بتقييمٍ أكثر قسوة لفشلِ شخص آخر في تحمُّل حدث مؤلم مشابه مقارنة بالمشاركين الذين لم يملكوا أي خبرة مواجهة هذه التجربة أو أولئك الذين يواجهون الحدث حالياً.
لكن.. ما أسباب هذه الظاهرة النفسية الغريبة؟
هناك تفسيرات نفسية مختلفة، أهمها أن الناس عموماً لا يتذكرون بشكل دقيق مدى قسوة التجربة وآلامها العصبية بعد أن مروا بها في الماضي وانتهت.
ورغم أن كثيراً من الناس يتذكرون بشكل عام، أن التجربة كانت مؤلمة في الماضي أو مزعجة عاطفياً، فإننا نميل لاحقاً إلى التقليل من الألم الذي مررنا به سابقاً رغم أننا اختبرناه بالفعل ونعرف مدى قسوته، وهو ما يطلق عليه الأطباء النفسيون (فجوة التعاطف).
ببساطةٍ نحن ننسى كم تألمنا..
في المقابل، يذكر الناس الذين مروا بتجربة مؤلمة معينة، أنهم كانوا قادرين على تجاوزها وعدم الانكسار أمامها، وهو ما يجعلهم يشعرون بثقة (زائدة) بفهمهم لما يمر به شخص آخر من صعوبات، فتذكُّر أنك قد تجاوزت تجربة مؤلمة من قبلُ يجعلك تظن الأمر سهلاً، وتخلق انطباعاً بأنه من الممكن التغلب على هذه الصعوبات بسهولة، وهو ما يجعلك أقل تعاطفاً مع الآخرين ممن يعيشون هذه التجربة المؤلمة ولم يتجاوزوها بعد!
كيف تمت التجارب؟ .. إنهم أكثر قسوة مما تتخيل
في التجربة الأولى، قام الباحثون بمسح عن أشخاص مشاركين في القفز إلى بحيرة جليدية بولاية ميشيغان الأميركية.
قرأ جميع المشاركين قصة عن رجل يدعى "بات"، كان ينوي إكمال الغطس، ولكنه انسحب في اللحظة الأخيرة بشكل حاسم، قرأ المشاركون عن "بات" قبل أن يغطسوا بأنفسهم أو بعده بأسبوع.. فوجد الباحثون أن الغطاسين الذين نجحوا في الإقبال على الغطس ولم يتراجعوا ، كانوا أقل رحمة وأكثر ازدراء لـ"بات" من الذين لم يكملوا الغطس.
في دراسة أخرى، نظر الباحثون إلى التعاطف والشفقة تجاه الفرد الذي يصارع البطالة. أكثر من 200 شخص يقرأون قصة عن رجل لم ينجح في العثور على وظيفة على الرغم من بذله قصارى جهده ويكافح من أجل تغطية نفقاته، واضطر في النهاية إلى بيع المخدرات من أجل كسب المال، كان الناس الذين تغلبوا على فترة من البطالة في الماضي أقل رحمة وأكثر حكماً على الرجل من الناس الذين هم حالياً عاطلون عن العمل أو لم يكونوا قط عاطلين عن العمل.
في دراسة ثالثة، تتبع الباحثون التعاطف تجاه مراهق متسلِّط. وأبلغ المشاركون إما أن المراهقين نجحوا في التعامل مع الاعتداء وإما أنهم فشلوا في التعامل معه.
ووجد الباحثون أن المشاركين الذين تعرضوا للتخويف والبلطجة في الماضي كانوا أقل رأفة وتعاطفاً وأكثر حكماً من الذين لم يتعرضوا من قبلُ للتخويف والاعتداء.
ما الذي يجب أن يتغير في حياتنا العملية بعد هذه التجارب ؟
ولهذه النتيجة تبعات مهمة على مواضيع مختلفة؛ فعليك أن تغير افتراضاتك وانطباعاتك بأن من خاضوا تجارب صعبة مماثلة لما مررت سوف يكونون تلقائيا أكثر تعاطفا معك.
وهذا قد يترتب عليه تغيير طرق التعامل مع زملاء ورؤساء العمل، ومن يتولى عمليات الإرشاد والتوجيه النفسي، فربما يجب إعادة النظر في تقنيات وضع أشخاص ينحدرون من تجارب متشابهة بعضهم مع بعض في حلقة، كما يفعل كثير من المتخصصين حالياً.
وربما تكون الجملة الشائعة "ضع نفسك مكانه" ليست في محلها، بالنظر إلى نتائج هذه الدراسة!