جلستْ على مقعدها الوثير الخاص بمكتبها في العمل، وأخذت تنظر برتابة ملحوظة إلى أكوام الملفات المتراصة أمامها بعناية ونظام خانق، وما زال فنجان قهوتها بيدها وعيناها تتابع المارة الذاهبين إلى عملهم في كسل ظاهر في أعينهم، وفجأة وصل إلى أسماعها صوت موسيقى عذبة الألحان يصدح من البناية المجاورة ويملأ الأجواء، فشعرت بخفة مفاجئة ونظرت للمارة مرة أخرى، فإذا بهم وكأنهم قد وقعوا في الغرام لتوّهم، فما الذي حدث بالضبط؟
السر يكمن في تأثير الموسيقى، إذ إن لها مفعول السحر على الروح حقيقةً لا مجازاً، وهذا ما سنوضحه في التقرير التالي:
العلاقة بين الإنسان والموسيقى
يُشاع عن الموسيقى دوماً بأنها غذاء الروح، لما يُعرف من أثرها الروحي البالغ على الإنسان، ولكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد من التأثير، ففي دراسة حديثة أُجريت في جامعة "نورث ويسترن" الأميركية، تبيَّن أن الاستماع إلى الموسيقى يؤدي إلى الشعور بالقوة، ويمنح الإنسان طاقة أكبر تساعده على الاستجابة البدنية والنفسية، في محيط العمل والإطار الاجتماعي.
وتؤثر الموسيقى أيضاً على دماغ الإنسان بدرجة كبيرة، فتُسهم في تعديل مزاجه للأفضل، فعند الاستماع للموسيقى يرتفع نشاط مناطق معينة بالمخ، ما يدل على إفراز كمية كبيرة من هرمون "الدوبامين"، الذي يُعد ناقلاً عصبياً له تأثير قوي على مزاج الإنسان وسعادته.
من النقاط الهامة كذلك أن الموسيقى لا تؤثر فقط على مزاجنا وسعادتنا، ولكنها تؤثر أيضاً على طريقة رؤيتنا للعالم، ففي دراسة أُجريت في جامعة "خرونينغن" الهولندية عام 2011، بعنوان "الموسيقى تغير التصور البصري"، استمع الخاضعون للتجربة إلى الموسيقى، وفي الوقت نفسه كانوا يتعرفون على الوجوه المعروضة عليهم التي كانت غامضة بعض الشيء.
وتوصل الباحثان مايك موريس وجوليج يعقوب إلى أن الخاضعين للتجربة رأوا وجوهاً مبتسمة عند استماعهم للموسيقى السعيدة، والعكس صحيح.
كما تبيّن وجود علاقة وطيدة بين الموسيقى والذاكرة، فاستماعنا لأغنية بعينها يثير في الأغلب عواطف قوية بداخلنا، ويؤكد لنا ذلك روبرت سنايدر رئيس قسم الصوت في معهد شيكاغو للفنون فيقول: إن جزءاً كبيراً من الذاكرة موجود في العقل اللاواعي، وهو الذي تثيره الموسيقى غالباً بشكل غير مقصود، فالذاكرة التي تحفزها الموسيقى تأتي غالباً في أوقات معينة من حياتنا، كأن تذكرنا الموسيقى الكلاسيكية بذكريات المراهقة وسن العشرينات أكثر من الموسيقى الحديثة.
ما دَورُ السياق الاجتماعي في الاستجابة لتجربة الموسيقى؟
تعد الموسيقى ظاهرة شديدة التعقيد ومركبة إلى حد بعيد، فأثرها على شخص يختلف تماماً عن أثرها على آخر، وربما تتذكر أنه حدث ونصحك أحدهم بالاستماع لإحدى فرق الموسيقى رائعة الأداء، ووجدتها مخيبة للآمال، هذا لأنها أكثر من كونها ظاهرة سمعية أو بصرية.
وعلى سبيل المثال، عازف الكمان العالمي جوشوا بيل، أجرى عام 2007 تجربة اجتماعية -بناء على طلب من مراسل صحيفة The Washington Post الأميركية- ترتكز على تخفي عازف الكمان الشهير بمحطات مترو الأنفاق والعزف في أروقتها، وعند القيام بالتجربة على مدار 35 دقيقة لم يتوقف سوى سبعة أشخاص فقط للاستماع لعزف بيل لموسيقى المؤلف المشهور يوهان سباستيان باخ، وترك المارة مبلغاً مجموعه 32 دولاراً للعازف، رغم أنه يحيي حفلاته في كبرى القاعات الموسيقية، وتذكرة الاستماع لعزفه تتعدى المائة دولار.
ربما يكون رد الفعل على تلك التجربة عائداً إلى أن الاستماع إلى الموسيقى يتأثر بقيمة العازف، ولكن هذا التحليل ربما يكون مخلاً بعض الشيء، لأن السياق الاجتماعي يؤثر إلى حد بعيد على الاستجابة للموسيقى.
فالذاهبون إلى أعمالهم ربما كانوا يواجهون ضغوطاً في الوقت أو ضغوطاً في العمل، كما أن ضغط الحياة اليومية وروتين الحياة القاسي لا يجعل الناس يلتفتون كثيراً إلى مصادر الجمال حولهم، ومن هنا توصلت التجربة إلى أن العزف بمحطة المترو لا يكفي لجذب المارة؛ لأن الموسيقى تجربة مكتملة الأركان.
لماذا تميل الشعوب إلى تقبل الموسيقى المألوفة؟
توصلت الطبيبة النفسية ديانا ديوتسش من جامعة كاليفورنيا بأميركا، إلى أن الاستجابة للموسيقى تعتمد بشكل كبير على الخلفية الثقافية واللغوية، فطبقاً لإحدى تجاربها وجدت أن المتحدثين باللغة الإنكليزية القاطنين في كاليفورنيا يميلون إلى سماع نوع معين من الموسيقى، يختلف عن ذلك الذي يستمع إليه المتحدثون بالإنكليزية في جنوبي إنكلترا.
كما أظهر المستمعون الصينيون اختلافات مماثلة. وتعود تلك الاختلافات بالأساس إلى الفاصل الزمني لحركات التوقف الموجودة في اللغة وعلاقتها بالموسيقى، إذ إن الموسيقى تعتمد بشكل أساسي على العناصر التعبيرية الخاصة بكل لغة أو لهجة، وتعبر بالأساس عن تلك العناصر.
وعلى سبيل المثال، فالاستجابة العاطفية للموسيقى الجديدة المكونة من أسلوب مألوف ثقافياً، تختلف كثيراً عن الموسيقى الجديدة المكونة من ثقافة غير مألوفة، وهذا تحديداً هو الذي يجعل استجابة الرضع للموسيقى متشابهة إلى حد بعيد، على عكس استجابة الكبار، فالرضع في تلك المرحلة المبكرة يركزون فقط على جانب واحد للموسيقى وهو النغمات والإيقاع.