في حالة زيارتك لباريس فهناك مَعلمان لا يمكن تفويتهما، الأول برج إيفل الشهير، والثاني متحف اللوفر، كيف لا ونحن نتحدث عن أكبر متحف فني في العالم، وعن أكثر متحف زيارةً على الإطلاق، بمعدل زوار يفوق في أحيان كثيرة ما تستقبله دولة من السياح خلال سنة كاملة.
كما يمتلك المتحف مجموعةً من أهم وأندر التحف الفنية على الإطلاق، وعلى رأسها لوحة الجوكاندا أو الموناليزا، إضافةً إلى قانون حامورابي الشهير، إلا أن هذا المكان الساحر لم يكن دائماً متحفاً، فلم يكن الغرض الأساسي من إنشائه أن يكون متحفاً. فماذا كان في البداية إذن؟ وكيف تحول إلى متحف؟ هذا ما سنتعرف عليه في هذا المقال.
أغراض دفاعية
نبدأ رحلتنا من نهايات القرن الثاني عشر الميلادي، وتحديداً سنة 1180، حين أصبح فيليب أوغست ملكاً لفرنسا في فترة اتسمت بعدم الاستقرار السياسي، إلا أنه تمكن سريعاً، وفي غضون بضع سنوات فقط، من تحقيق انتصارات عسكرية ودبلوماسية هامة، مكَّنته من توسيع حدود فرنسا بشكل ملحوظ، إلا أن توسيع حدود دولته لا يعني شيئاً إذا لم يقم بحماية تلك الحدود، وهو ما دعاه إلى اتخاذ قرار بتقوية القلاع الموجودة بالفعل، وبناء قصور وقلاع جديدة تماماً، وهو ما أدى إلى بناء أحد القصور المنيعة سنة 1190، والذي صار يُعرف حالياً بمتحف اللوفر.
استمر الحال على ما هو عليه لعدة سنوات، قبل أن يحدث ما لم يخطط له أوغست، لا نتحدث هنا عن أي هجوم أو حرب، لكن ما حدث هو قيام السكان ببناء منازلهم في المنطقة المحيطة بالقصر، وهو ما أدى لإضعاف مهمة القصر الذي كان من المُفترض أن يحمي المدينة، إلا أنه لم يعد قادراً على ذلك؛ لأنه لم يعد في مقدمتها، وهو الأمر الذي أدى لتحويل القصر من مكان مُصمم للحماية إلى قصر إقامة ملكية.
إقامة ملكية
تحول المكان إلى محل إقامة لا يعني الكثير؛ نظراً لكثرة القصور المُصممة لذلك، إلا أن الأمر بدأ يتغير بشكل واضح خلال عهد الملك تشارلز الخامس خلال القرن الرابع عشر. حيث قام بإحاطة المكان بالعديد من التحسينات، وتعديل تصميمه المعماري؛ حتى يأخذ شكلاً أكثر تحضراً، بل وتحويله إلى محل إقامته الدائم كذلك الذي يقيم به أكبر المناسبات، ويلتقي فيه بأهم الشخصيات. من ناحية أخرى، يعتبر تشارلز الخامس أول من أعطى للمكان صبغة ثقافية؛ نظراً لأنه أقام به مكتبةً ضخمة، لكن للأسف تم تدميرها وحرق أغلب الكتب الموجودة بها خلال حرب المائة عام.
انتقل القصر بين ملوك فرنسا الذين حافظوا على قيمته، وقام العديد منهم بإضافة الكثير من التحسينات الفنية والمعمارية، خصوصاً خلال عصر النهضة على يد فرانسوا الأول (العاشق لتجميع التحف الفنية)، ثم هنري الثاني الذي قام ببناء غرفة "الكارياتيد" الشهيرة بتماثيلها الجميلة، والتي تحولت فيما بعد لغرفة خاصة بالحفلات الملكية، والاجتماعات رفيعة المستوى.
بحلول القرن السابع عشر، وبعد التحولات الجذرية التي عرفها المكان على يد مختلف الملوك، أصبح القصر مختلفاً بشكل تام عن الشكل الذي تم بناؤه في بداية القرن الثاني عشر.
أكاديمية فنية
بجلوس الملك لويس الرابع عشر على كرسي العرش، شهد المكان تحولاً مفاجئاً، بعد أن قرر هذا الأخير مغادرة باريس، وتحويل محل إقامته إلى فيرساي، وهو الأمر الذي تسبَّب في تحويل القصر إلى أكاديمية متخصصة في الرسم، ثم النحت، ومن بعده الهندسة المعمارية، والعلوم السياسية، بل وحتى العلوم الطبيعية. وحتى بعد عودة العائلة الملكية إلى باريس -بعد الثورة الفرنسية سنة 1789- اختار الملك الإقامة في قصر آخر غير اللوفر، بينما تم تخصيص هذا المكان للقاء النبلاء، والفنانين.
ما يثير السخرية أنه لا تعود فكرة تحويل اللوفر إلى متحف سوى للملك لويس السادس عشر، ونقصد هنا ملك فرنسا الذي تم إعدامه من طرف الثوار سنة 1793، فهو الذي أعطى الأوامر ببدء البحث عن أي تحف نادرة، أو قطع نفيسة تستحق عرضها بالمتحف، وهو الأمر الذي دأب عليه المجلس الوطني الفرنسي منذ سنة 1790، قبل أن يتم افتتاح المتحف للعموم سنة 1793، في العاشر من شهر أغسطس/آب، أي بعد سبعة أشهر من إعدام لويس السادس عشر، مما يعني أنه قد تم افتتاحه في عهد حكومة الثوار.
ليتراوح حالياً عدد زوار المتحف سنوياً ما بين ثمانية وتسعة ملايين زائر، قادمين من مختلف أنحاء العالم، ليس لمشاهدة اللوحات والتحف الخاطفة للأنفاس فقط؛ بل لمشاهدة المتحف الذي يعد في حد ذاته أيضاً تحفة فنية نفيسة قائمة بذاتها.