وصل إلى مسامعنا جميعاً عبارات مثل "انظر إلى الجانب المشرق!"، أو "السعادة اختيار، فاختر أن تكون سعيداً!".
كما تمتلئ أرفف المكتبات بعددٍ لا يحصى من كتب تطوير الذات، فمثلاً كتابYou Are Badass الذي كتبته مدربة التنمية الذاتية جين سينسيرو، حافظ على موقعه بقائمة نيويورك تايمز لأعلى مبيعات الكتب لـ 32 أسبوعاً.
أما كتاب "قوة التفكير الإيجابي" The Power of Positive Thinking الذي كتبه المؤلف والمبشر الأميركي نورمان فينسنت بيل، وتُرجم إلى 15 لغة، فلا يزال يحظى بشهرة حتى اليوم.
وطالما كانت الفكرة التي تشير إلى أن الإنسان يمكنه أن يكون سعيداً إذا اختار ذلك، تدرس في الجيش والمدارس وأماكن العمل بالولايات المتحدة؛ بهدف تطوير مهارات التعامل وأداء الفرد وأيضاً تطوير الصحة العقلية.
بيد أنه مع زيادة شعبية تلك الحركة، بدأت في إلحاق الخزي بالناس الذين يعانون من الاكتئاب أو القلق أو حتى الأشخاص الذين يواجهون مشاعر سلبية مرضية.
إذ أثبتت دورية لـ "جمعية دراسة التحفيز" Society for the Study of Motivation، أن ذلك الشعور بالحزن حقيقي، وخلُصت الدراسة التي نُشرت في عدد شهر أغسطس/آب 2016، إلى أنه عندما يقرّ الناس بالمشاعر السلبية في علاقاتهم أو بالأمراض المزمنة، فإن ذلك يساعدهم على تحسين سلوكياتهم.
كما أوضحت أن الناس الذين يعتقدون أن المشاعر يمكن التأثير عليها وتغييرها بسهولة هم أكثر عرضة لإلقاء اللوم على أنفسهم بسبب تلك المشاعر السلبية التي تنتابهم، أكثر من الناس الذين يعتقدون أن العواطف ثابتة ولا يمكنهم القيام بشيء حيالها.
على الرغم من أهمية تلك الدراسات، لم تكن الأولى التي تشير إلى أن علم النفس الإيجابي قد يكون خطيراً، إذ عكف خبراء علم النفس لسنوات على دراسة العواطف وكيفية تأثيرها على الحياة اليومية والنجاح والثقة بالنفس.
وتوصلت تلك الدراسات إلى أنه بينما يستطيع علم النفس الإيجابي أن يساعد بعض الناس لأن يصيروا سعداء، فإنه قد يتسبب في الإضرار بآخرين ليقودهم في النهاية نحو الشعور بالفشل والاكتئاب.
رغم أن نتائج الأبحاث الحديثة، وأيضاً الأبحاث التي استغرقت أعواماً، تشير إلى سلبيات علم النفس الإيجابي، لا يزال الإعجاب بذلك العلم منتشراً ومستمراً.
إذ يعتقد بعض الخبراء أن أحد أسباب ارتفاع معدلات الاكتئاب في الولايات المتحدة هي تلك المسكنات التي تنهال على الناس، وأيضاً كتب تطوير الذات التي تخبرهم بشكل مطلق أنهم مخطئون لأنهم ليسوا سعداء.
كانت المرة الأولى التي ظهر فيها مصطلح "علم النفس الإيجابي" من خلال كتاب "التحفيز والشخصية" Motivation and Personality الذي كتبه ماسلو العام 1954، وكان ذلك المصطلح عنواناً لأحد أجزاء الكتاب، والذي قال فيه ماسلو "طالما كان علم النفس ناجحاً في التركيز على الجانب السلبي أكثر بكثير من الجانب الإيجابي".
ويكشف لنا ذلك عن مدى قصور الإنسان وأمراضه ومعاصيه، لكنه لا يتعرض سوى بالقليل لإمكاناته ومزاياه وطموحاته القابلة للتحقيق، أو لأي مدى يمكن أن تصل حالته النفسية.
في عام 2012، شارك الخبير النفسي نيل فرود في إنشاء شركة تسمى "استشارات السعادة"، التي تعمل على رفع مستويات السعادة والرفاهية والمرونة لدى الموظفين بالشركات. وخلال عام واحد، نال كل عضو من أعضاء الشركات التي تعمل مع فرود دورة في علم النفس الإيجابي بلغت مدتها 4 أسابيع. وأخبر فرود الموقع الإلكتروني لشركة "فاست كومباني إنك كوكرييت" أن كثيراً من الشركات التي تتضمنها قائمة فورتشين 500 اعتمدت على علم النفس الإيجابي خلال السنوات الأخيرة باعتباره أداة للإدارة.
وساعد اعتماد إدارات الشركات والقوات المسلحة على علم النفس الإيجابي في نشر منهجه لدى الثقافة الجماهيرية. ولكن كلما نما علم النفس الإيجابي، اتخذ نبرةً جديدة تحمل رسالة مبسطة تدعو إلى "التفكير الإيجابي".
تقول جولي نوريم، أستاذة علم النفس بكلية ويلزلي كوليدج، إن كثيراً من الدراسات التي أجريت بصورة سيئة نُشرت باسم علم النفس الإيجابي وبدأت في الظهور بكثير من الأماكن، إذ ادّعى معظمها أن التفاؤل والتفكير الإيجابي يقودان إلى حياة سعيدة. لكن كارول تافريز خبيرة علم النفس الاجتماعي تشير إلى أن معظم تلك الدراسات أُدحضت عن طريق دراسات أخرى أفضل منها.
خلال السنوات الأخيرة، أعرب النقاد عن قلقهم من أن تلك الصورة المبسطة لعلم النفس الإيجابي يمكنها أن تسبب أضراراً أكثر من تسببها في فوائد.
وعن ذلك تقول باربرا هيلد، أستاذة علم النفس بكلية بودين كوليدج "إنه طغيان السلوك الإيجابي، بمعنى أنه حتى مع الخسائر الكبيرة، يُفترض أن يتجاوز الناس أحزانهم في غضون أسابيع، أو ربما أقل من ذلك.
وتضيف هيلد قائلة إن طغيان التفكير الإيجابي يتكون من جزأين: الأول يكمن في شعور الشخص بالسوء تجاه أي ألم يقابله في طريقه، والثاني حين يجد المرء نفسه يشعر بالذنب والنقص لأنه لم يكن شاكراً لما يمتلكه ويمضي قدماً في طريقه ويفكر في الإيجابيات، إذ تعد تلك المشاعر بمثابة لكمة مزدوجة، فضلاً عن أن الجزء الثاني هو الذي يتسبب في أضرار جسيمة.
الإيجابية المفرطة تأتي بنتائج عكسية
كما توصلت دراسة أُجريت العام 2012 بجامعة كوينزلاند، ونُشرت في مجلة Emotion، إلى أنه عندما يعتقد شخص أن الآخرين يتوقعون منه ألا تنتابه المشاعر السلبية، ينتهي به الحال بأن تنتابه مشاعر أكثر سلبية.
وتوصل الباحثون أيضاً إلى أن الناس الذين تنتابهم مشاعر سلبية يمتلكون قدرة أفضل وأكثر إقناعاً في المناقشات من الأشخاص الذين يعيشون في حالة مزاجية إيجابية، فضلاً عن أن الحالة المزاجية السلبية يمكنها أن تعزز من ذاكرة الإنسان.
وتشير كثير من الدراسات إلى أن استخدام التفاؤل الإجباري، أو الحالة المزاجية الإيجابية، مع القلق الذي يشعر به أحد الأشخاص الذين يلجأون إلى استخدام النفسية الدفاعية التشاؤمية، يمكن أن يؤدي إلى الإضرار بأدائهم للمهام المختلفة، بدءاً من حل المسائل الرياضية وحتى لعبة رمي النبال.
وتقول جولي نوريم أستاذ علم النفس بجامعة ويلسلي الأميركية إن العبارات اللافتة للانتباه مثل "كل شيء على ما يرام" تتسبب في إنهاء المحادثات المتعلقة بما يشعر به الناس حقاً، فإن كنت تعاني من يوم سيئ، قد يساعدك الحديث إلى أصدقائك عنه، لكن المجتمع صار متشبعاً بالنظرة الشمولية التي تقول "علينا أن نكون إيجابيين طوال الوقت"، فلا يجد الشخص أحداً يسمع شكواه.
يشير الطبيب النفسي مارك بانشيك إلى أن التفكير الإيجابي يمكن أن يجعل الشخص يغفل عن الإجراءات الضرورية التي يجب اتخاذها، إذ إن الناس قد يقولون إن كل شيء على ما يرام حتى وإن لم يكن كذلك، كما أنهم يحاولون تجنب حل المشكلات التي تواجههم في حياتهم.
وتقول جولي نوريم إن أفضل وسيلة لمواجهة طغيان التفكير الإيجابي تكمن في الاعتراف بعدم وجود إجابات بسيطة للمشكلات المعقدة التي يواجهها الناس، والأهم من ذلك أن الناس في حاجة لإدراك أنه ليس من العيب أن نشعر بالاكتئاب عندما تسوء الأحوال.
وتضيف "ليس ثمة مشكلة في ألّا تكون متفائلاً طوال الوقت، كما أنه ليس من الواقعي أن تعتقد بأنك يمكنك أن تشعر بالسعادة في كل لحظة. فذلك لا يعني أنك شخصية فاشلة، بل أن لديك تنوعاً في العواطف".
– هذا الموضوع مترجم عن مجلة Newsweek الأميركية. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.