العمل الدؤوب والصبور لبناء نموذج واحد ناجح هو الطريق لبناء نماذج أخرى ناجحة، دون الحاجة إلى كثير كلام أو ضجيج إعلامي، هذا هو الدرس الرئيس الذي تتعلمه من تجربة الدكتور صلاح عرفة ونموذجه في التنمية، والذي بدأه بقرية واحدة هي البسايسة بمحافظة الشرقية منذ عام 1974، أي منذ حوالي 42 عاماً.
الدكتور صلاح عرفة هو أستاذ الفيزياء بالجامعة الأميركية بالقاهرة، ولد عام 1941، وحصل على الدكتوراه في فيزياء الجوامد من جامعة القاهرة عام 1969، تغيرت مسيرة حياته تماماً أثناء زيارته العلمية لجامعة أوبسالا بالسويد عام 1972، حين طلب منه أن يتحدث عن مصر بلده مصر، ورغم أن المحاضرة مضت بشكل جيد، إلا أن الأسئلة التي وجهت إليه عن الأوضاع الاجتماعية/ الاقتصادية لأهل مصر من فقر وأمية وبطالة جعلته يشعر بأنه لا يعرف إلا القليل عن بلده الذي تكلم عنه للتو. وهو ما دفعه للسعي لمعرفة المزيد عن تلك المشكلات التي توجه أهل بلده، لكنه قرر ألا يتوقف عند حد المعرفة، بل اختار إحدى القرى الصغيرة، كان عدد سكان قرية البسايسة حينها لا يتجاوز 1000 شخص، ومن هناك كانت البداية.
استخدم الدكتور صلاح في قرية البسايسة منهجا كان رائداً فيه وهوالتنمية القائمة على المشاركة المجتمعية، التي كان أساسها لقاء أسبوعي مع أهل القرية، ومن هذا اللقاء انطلقت مشروعات محو الأمية والطاقة الشمسية والبيوجاز والتنمية الزراعية والقروض الصغيرة الدوارة، مستخدماً في ذلك الموارد المحلية المتاحة في القرية وأولها الموارد البشرية (عبر استشارة الناس ومشاركاتهم بالمجهود البدني والمعرفي) ثم الموارد الطبيعية، واستمر العمل في تنمية القرية عبر ذلك اللقاء الأسبوعي وما يثمر عنه من أفكار ومشاريع تنموية على مدى 9 سنوات، حتى قام الدكتور صلاح، بمساعدة أهل القرية على تأسيس جمعية لتنمية المجمع المحلي وتعاونية إنتاجية عام 1983.
وفي عام 1985 قام بتأسيس مركز التكنولوجيا الريفية المتكامل للتدريب والإنتاج لتوفير التدريب والمعلومات وتطوير العمليات الإنتاجية في المناطق الريفية، ومن القرية انطلق النموذج التنموي إلى القرى المجاورة (الطيبة، وأم رماد، والدويدة، وبني عبيد).
وفي إطار مبدأ التوأمة بين المجتمعات الريفية في الوادي، ومجتمعات جديدة تنشأ في صحاري مصر قرر الدكتور صلاح عرفة وأهل البسايسة عام 1992 الانطلاق بتجربتهم إلى الصحراء، فقرروا شراء أراض صحراوية في رأس سدر بجنوب سيناء واستصلاحها، وبدأوا بـ250 فداناً في البداية، زادت إلى 750 فداناً لاحقاً تم تسديد ثمنها على أقساط، ومن ثم تم تأسيس مشروع "البسايسة الجديدة" الذي يعمل فيه شباب أهل البسايسة القديمة متعاونين مع بدو سيناء، في إطار الجمعية التعاونية الزراعية برأس سدر التي تأسست عام 1994.
في البداية تم حث الشباب على العمل بشكل جماعي في الأرض لإعداد البنية الأساسية لمجمل المشروع من آبار وطرق ومصدات رياح، ثم تم تقسيم الأرض إلى 5-10 أفدنة وتوزيعها بطريق القرعة، على أنه لا يجوز لأي شخص تملك أكثر من 20 فداناً، وتم اعتماد نموذج حسن فتحي في بناء منازل المشروع، بمساحة 200 متر لكل بيت، محاطاً بحديقة بنفس المساحة لزراعة الخضراوات والفاكهة، مع استخدام الطاقة الشمسية وطاقة الرياح في مجمل المشروع، واعتمدت الزراعة في المشروع على الزيتون والنخيل والجوجوبا، وقد أنشئت معاصر للزيتون لتحقيق عائد أكبر من المشروع.
ونتيجة لنجاح التجربة، تم تخصيص 1000 فدان بالفرافرة بمحافظة الوادي الجديد لتكرار التجربة في إطار ما سمّاه "الهجرة إلى الداخل"، حيث استطاع أن يجمع 150 شاباً من محافظات الصعيد كي يبدأوا في استصلاح الأرض، وفي هذا المشروع اتبع سياسة أن يأتي مستثمر لشراء مساحة من الأرض غير القادرة على الإقامة فيها واستصلاحها بنفسه، ليقوم غيره من هؤلاء الشباب غير القادرين مالياً بالعمل على استصلاحها، على أن يحصل كل واحد من هؤلاء الشباب على 5 أفدنة مقابل عمله على تعمير واستصلاح المساحتين (الخاصة بالمستثمر، والتي يقوم بسداد ثمنها لتملكها)، ويقوم الأساس في استصلاح المساحة على تنظيم وتخطيط العمل فيها بنفس المبدأ التعاوني والعمل الجماعي ونفس روح البسايسة الجديدة.
كُرم الدكتور صلاح عرفة على جهوده ونماذجه التنموية محلياً ودولياً، حيث حصل عام 2004 على زمالة منظمة أشوكا (منظمة دولية معنية بالريادة الاجتماعية) في الوطن العربي، كما اختير عام 2009 كرجل العام للبيئة والتنمية، كما كرم عام 2010 كأحد رواد التضامن الإنساني.
هناك الكثيرون المعنيون والمهتمون بالتنمية يسمعون عن الدكتور صلاح عرفة وتجربته، لكن القطاع الأكبر من الشعب المصري ومن شبابه لا يسمعون عنه ولا يعرفون تجربته، وفي ظني أن هذا هو أحد أسس النجاح في مصر بظروفها، ونظام حكمها.. العمل بلا ضجيج.
نموذج عرفة يعطي دروساً في العمل وفق الآليات والموارد المتاحة، والصعود بها ومعها بجهد وجهاد وكفاح وعرق. وعلى مر الزمن لأصحاب النفس الطويل والعمل الدؤوب، مزج الدكتور صلاح في عمله بين المبادرة والعمل دون كيان قانوني فترة من الزمن، حتى توثقت علاقاته بالمجتمع وعلاقات المجتمع بعضه ببعض، حتى وصل الناس إلى شعور بأنهم قادرون على العمل في أطر قانونية، هنا تم العمل في إطار عدد من الجمعيات الأهلية والتعاونيات – على عورات قوانينها – سواء في البسايسة أو في المجتمعات الجديدة الناشئة.
مزج نموذجه التنموي القائم بالأساس على التنمية بالمشاركة (المشاركة بالرأي والجهد والمال)، بين التنمية التعليمية والزراعية والبيئية والإنتاجية، وبين مكافحة الأمية والفقر والبطالة.. أهم مشكلات المجتمع المصري، عبر آليات ناجعة ومستدامة. وفي المجمل أظنه نموذج يستحق الدراسة، ويتعلم منه، لمن لا زال لديهم العزيمة، والأمل على التغيير.
للمزيد حول الدكتور صلاح عرفة يمكن للراغب البحث باسمه بالعربية والإنكليزية وسيجد عدداً من المواد التعريفية، التي استقيت منها معلومات المقال. كما يمكن مشاهدة فيلم "البسايسة الجديدة" من برنامج زمام المبادرة، من إعداد الراحل البراء أشرف:
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.