قصص ومعان “8” هيلينا نوربرج-هودج.. السعي نحو اقتصاديات للسعادة

لكن التحول الأهم في نظر هيلينا هو التحول النفسي، فبعد أن كان يشير أحدهم إلى أنه ليس في بلدتهم فقير، وصار مع ما يُنظر من زحف السيارات والأموال يصف سكان بلدته بالفقراء، وصار يُنظر إلى ثقافتهم على أنها بدائية ومتأخرة.

عربي بوست
تم النشر: 2016/04/28 الساعة 03:30 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/04/28 الساعة 03:30 بتوقيت غرينتش

لا شك أن النظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي هو نظام مليء بالعورات التي انتقدها بعمق العشرات من المفكرين الغربيين قبل غيرهم، لكن القدرة على تصور بدائل نظرية وعملية لهذا النظام أمر آخر، اجتهد فيه نسبة قليلة من هذه الكثرة الناقدة، حتى وإن لم يكتب لبدائلهم تلك أن تسود؛ لأن سيادتها أمر مرهون بثنائية الإغراء والقوة التي يمارسها النظام القائم من جهة، والقبول الراضخ والمتلذذ بالرضوخ الذي استطاع هذا النظام أن يوجدها في أوساط الناس من جهة أخرى، رغم ذلك فإن البدائل المطروحة تكتسب أرضاً جديدة كل يوم، وتخلق لها واحات وسط صحاري النظام العالمي السائد وإن كان بشكل بطيء.

من بين من اجتهدوا في الترويج لرؤى وحركة بديلة الكاتبة وصانعة الأفلام ذات الأصول السويدية هيلينا نوربرج-هودج Helena Norberg-Hodge، تلقت هيلينا تعليمها في كل من السويد وألمانيا والنمسا وإنكلترا والولايات المتحدة، وتخصصت في علم اللسانيات، حيث درست للدكتوراه في كل من جامعة لندن، وإم آي تي MIT وتعلمت على يد نعوم تشومسكي.

وهي تجيد 7 لغات، ودرست العديد من الثقافات معايشة، لكن أهمها، والتي شكلت الرؤية العالمية لها هي مجتمع لاداخ Ladakh في الجزء التابع للهند من منطقة التبت، على حدودها مع الصين وباكستان، وهي منطقة ظلت معزولة لمئات السنين، وكان أول طريق يبنى ليربطها بباقي مناطق الهند عام 1962، وفتحت المنطقة للسياحة و"التنمية" عام 1975، وهو الوقت الذي زارت هيلينا فيه المنطقة كمترجمة مع فريق تصوير ألماني، وكانت شاهدة على الحالة البكر للاداخ حين زارتها لأول مرة، حيث كان يقطنها 5000 نسمة، يزرعون الشعير في حقول تحيط بالقرية من كل اتجاه، التي تضم بعض مزارع الماشية.

وخلال 20 عاماً تبدل حالها نتيجة للزحف العمراني، وصارت شوارعها مختنقة بالزحام المروري ورائحة الديزل، تحيط بها صناديق إسمنتية، وتلوثت مجاريها المائية، وأصبح ماؤها غير صالح للشرب، وعرف الناس فيها لأول مرة البطالة، والصراعات الطائفية.

لكن التحول الأهم في نظر هيلينا هو التحول النفسي، فبعد أن كان يشير أحدهم إلى أنه ليس في بلدتهم فقير، وصار مع ما يُنظر من زحف السيارات والأموال يصف سكان بلدته بالفقراء، وصار يُنظر إلى ثقافتهم على أنها بدائية ومتأخرة.

وقد دفع ذلك هيلينا لتأسيس "مشروع لاداخ The Ladakh Project" عام 1978، لمواجهة الانطباعات الوردية عن الحياة في ظل الثقافة الحضرية الاستهلاكية، وإعادة غرس احترام الثقافة التقليدية، كما ساعدت على تأسيس عددٍ من المنظمات الأهلية المحلية، ومنها تحالف لاداخ النسائي Women's Alliance of Ladakh ومنظمة لاداخ للبيئة والصحة Ladakh Environment and Health Organisation ومجموع التنمية الإيكولوجية للاداخ Ladakh Ecological Development Group وهي المجموعة التي صممت وبنت وركبت عدداً من التكنولوجيات الصغيرة الملائمة ومنها سخانات مياه ومواقد طهي شمسية، وسخانات المساحة السلبية passive space heaters والصوب الزجاجية، وتقديراً لجهودها تلك منحت هيلينا عام 1986 جائزة الحياة الطيبةRight Livelihood Award والتي تعرف بجائزة نوبل البديلة.

وفي عام 1991 استطاعت هيلينا أن تبلور رؤية من خلال خبرتها في مجتمع لاداخ حول الثقافات التقليدية وتأثير برامج التنمية السائدة عليها، ضمتها كتابها الأشهر "المستقبليات القديمة: التعلم من لاداخ Ancient Futures: Learning from Ladakh وهو الكتاب الذي طبعت منه 3 طبعات وترجم إلى أكثر من 40 لغة حتى الآن، ووصف بأنه أحد الكلاسيكيات الملهمة، وأنه واحد من أهم الكتب في عصرنا، وهو الكتاب الذي تحول إلى فيلم وثائقي أنتجته وساهمت في إخراجه عام 2011 تحت عنوان "اقتصاديات السعادة Economics of Happiness" وحصل على عدة جوائز.

كما ساهمت عام 1992 في تأليف كتاب: من الألف إلى الياء..إعادة النظر في الزراعة الصناعية، وكتاب استعادة الاقتصاد الغذائي: البدائل المحلية لتجارة الغذاء العالمية عام 2002، وإضافة إلى الكتب، فإن هيلينا نشرت ما يربو على 300 مقال في عدد من الصحف والمجلات العالمية، وحاضرت بسبع لغات في قارات العالم المختلفة.

إضافة إلى ذلك، وسعياً في خلق حركة عالمية من أجل عالم أفضل، فقد أسست هيلينا الجمعية الدولية للإيكولوجيا والثقافة International Society for Ecology and Culture وهي التي صارت تعرف اختصاراً باسم "المستقبليات المحلية Local Futures" وهي مؤسسة مقرها في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا، ولها فروع في ألمانيا وأستراليا، وتسعى لبحث الأسباب الجذرية للأزمات الاجتماعية والبيئية الحالية، وترويج أنماط أكثر استدامة ومساواة للعيش في شمال العالم وجنوبه، وهيلينا أيضا عضوة مؤسسة في اللجنة الدولية حول مستقبل الأغذية والزراعة، ومؤسسة مشاركة لكل من المنتدى الدولي حول العولمة وشبكة القرى الإيكولوجية العالمية.

وخلاصة فإن الملهم في قصة هيلينا هو القدرة على النظر النقدي لمجريات الحياة وتغيراتها، والقدرة على تكوين رؤية وحركة بديلة عبر الخبرة العملية على الأرض، وبلورة هذه الرؤية موثقة ومدونة، وإنضاجها عبر الكتابة والمحاضرة والنقاش والحركة والسعي في الأرض، والاستماع إلى الناس والتعلم من خبراتهم حتى تصير الرؤية والحركة أكثر نضوجاً.

وكما يقال فإن الحركة بركة، والسير والنظر في أحوال البشر هو من أعظم مصادر تلك البركة، لأنها تمنح المعرفة والإلهام والبصيرة.

للمزيد حول هيلينا طالع ويكيبيديا

وموقع المستقبليات المحلية

ومحاضرة لها في أحد برامج " target="_hplink">تيد إكس

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد