يُعتبر شاطئ بحر غزة المتنفَّس الوحيد لأهل القطاع المُحاصَر، وهو ملجأهم في الكثير من الأوقات خاصة وأن القطاع يفتقر لأبسط الإمكانيات والحياة الطبيعية المتوافرة لغالبية شعوب العالم، وبسبب تلك الخصوصية أصبح شاطئ غزة ساحة لأنشطة كثيرة تمارس في بلاد أخرى، إلا أن لها نمطاً خاصاً في ذلك القطاع المخنوق باستمرار بالحصار والمهدد دوماً بالعدوان.
1- ركوب "الحَسَكات"
"حسكات" السُّيّاح (القوارب) واحدة من الأشياء التي يستمتع بها المواطنون الغزاويون على شاطئ بحر غزة، وهي ملاذ من يرغب في الترفيه عن نفسِه وعائلته، فأي غزاوي يزور الشاطئَ يركب "الحَسَكة" أو يتمنى على الأقلّ ركوبَها خاصة الأطفال منهم والصبايا والشباب، فحين يدفع أحد الصيادين الحسكة بعيداً عن الشاطئ لتبدأ بالتحرك داخل البحر، ثم تُسرع شيئاً فشيئاً، فتتطاير ضحكات الراكبين ويعلو صراخهم المفعم بالحياة.
ولأن الغزاويّين محاصرون براً وبحراً من قبل الاحتلال الإسرائيلي ومحرومون من التمتّع بميناءٍ للسفر، ينقلهم عبر سفينةٍ أو باخرة لتحقيق بعضٍ من أحلامهم خارجها، بات دخولُهُم للبحر والابتعاد بعض مئات الأمتار عن الشاطئ والتلاعب بالماء بأقدامِهم والشعور بلسعة البردِ تسري فيها يشكّل لهم فرحةً كبيرةً وتعويضاً قليلاً عن ذلك الحرمان.
والغريب أن تجد صيّادةً فلسطينيّة في عزّ شبابِها اضطرّها الفقرُ أن تكون في النهار سائقةً لإحدى "الحسكات"، فتنطلق بالزبائن داخل البحر نهاراً حتى غروب الشمس، وفي الليل تعمل صيّادة بارِعة، لتعود بعد منتصف الليل لبيتها منهكة وقد وفّرت قوت الغد لعائلتها.
"مدلين كُلاب" (22 عاماً) هي الصيادة الوحيدة بين الرجال تقول لـ"عربي بوست": "أعمل في البحر منذ طفولتي، فكنت أساعد والدي منذ عمر السادسة حتى تعلّمت أصول الصيد بحذافيرها، وفي الرابعة عشرة امتهنته حين أصيب والدي بالشلل في رجليه وقد حصلت على رخصة صيد كأي صيّاد".
2- الرَّكمجة
الركمجة، أو ركوب الأمواج المتلاطمة، هوايةٌ ورياضةٌ تجتذب عشاق البحر وأصدقاءه، فحين تعلو الأمواج، تحين فرصتهم وفرحتهم أيضاً.
الشاب محمود الرياشي (25 عاماً) من سكان منطقة البحر، يطلقون عليه الرَّيِّس لتميزِه، حيث يركب الأمواج باحترافٍ وإبداع، يقول لـ"عربي بوست": "وُلِدت في الأردن وتربيت فيها، وكنت أتوق لرؤية بحر غزّة، وأول ما دخلت غزّة ذهبتُ إليه والشوق يتملَّكني، إنه عظيم".
وحصل الرياشي على شهادات كثيرة دولية في المجال البحري، مكّنته من احتراف "الركمجة" حتى بات ينتظر المنخفضات الجويّة بشوقٍ لينطلق للبحر راكباً أمواجَه.
ويوضح: "تلك الرياضة خطيرة جداً، خاصة حين يكون الراكب قريباً من الصخور حيث هناك تكون أفضل الأمواج لتلك الرياضة، فيعيش حينها راكب الأمواج المغامرة والتحدّي".
ويقول: "تزداد خطورة هذه الرياضة حين يرتطم اثنان من راكبي الأمواج ببعضهما أو حين يقع الراكب في دوَّامة قوية".
3- الرسم على الرِّمال
وكان لشاطئ بحر غزّة نصيب وافر من الإبداع الشبابي الذي لا يتوانى عن البحث عن أفكار جديدةٍ فنيّة ومتميزة، فتجدهم يعبّرون عن أحلامِهم وآمالهم وأفكارهم بكلماتٍ ورسوماتٍ تبوح ألماً تارةً وأخرى يملؤها الأمل، وذلك بالرسم على رمالِ الشاطئ.
رمال شاطئ بحر غزّة لا تروي حكايا غزة وفلسطين فقط، بل تجد سوريا ومصر وتركيا وغيرها من الشعوب حاضرةً في مناسباته المختلفة.
أسامة اسبيتة شاب يرسم على الرمل باحترافٍ أذهل كل من يراه، يقول: "أستخدم يديّ ومجروداً صغيراً فقط لأحصل على الصورة التي أريد توصيل رسالتي من خلالها".
اسبيتة خرج حيّاً بأعجوبة من مجزرة الشجاعية التي اقترفها العدوان الصهيوني بحق أهل غزّة في عدوان 2014، يوضح: "نجاتي كان لها دور كبير في ولادة فكرة الرسم على الرّمل، فرسمتُ كلمة حيّ الشجاعية، وأسماء بعض الشهداء في ذلك الوقت".
ولم ينسَ اسبيتة الحرب في سوريا، فرسم أسماء المدن المدمّرة بهدف تسليط الضوء على معاناة أهلها، وخطّ الكثير من أسماء المناسبات، لتظهر الصورة إبداعية بعد تصويرها من الأعلى.
كذلك الشاب محمد طوطح الذي فقد ساقه في عدوان 2008 على غزّة بعد سقوط قذيفةٍ نارية بجانب بيته يرسم على رمال الشاطئ ويجد متعةً كبيرةً في ذلك.
يقول طوطح لـ"عربي بوست": "أشعر بنهمٍ كبيرٍ للتلاعب بحبيباتِ الرمل، فأسعد لحظاتي هي التي أجلس فيها على الشاطئ وأبدأ بالرسم به، وبعد الانتهاء من رسم الصورة أشعر بارتياح نفسيّ كبير".
ويضيف: "رمال الشاطئ هي أكثر وسيلةٍ لي للتعبير عما يختلجني من أفكار".
4- رياضة الباركور
وهي مجموعة حركات الغرض منها: "الانتقال من نقطة إلى أخرى بأكبر قدر ممكن من السرعة والسلاسة، باستخدام القدرات البدنية"، وهي من الرياضات التي أبدع فيها بعض الشباب الغزّاويّ، أيضاً واحدةٌ من الأفعال التي يمارسها لاعبوها على شاطئ بحر غزّة وتحديداً منطقة الشيخ عجلين، فما إن يبدأوا بتخطّي الحواجز والمدرجات قرب الشاطئ حتى يتجمهر المصطافون منبهرين بقفزاتهم التي لم يسبق وأن اعتادوا عليها، فيصفقون لهم ويصفرون، بينما تبدأ النساء الحنونات بالدعاء لهم: "الله يحميكم يا شباب هالبلد".
عدي العجرمي (22 عاماً) من سكان مخيّم جباليا، يقول لـ"عربي بوست": "بحر غزّة متنفسنا وعليه نفرغ الكثير من الطاقة التي نمتلكها، ويوم الجمعة هو أكثر الأيام التي نمارس فيها تلك الرياضة لتفرغنا".
ويضيف: "نحن لا نخاف أحداً، هكذا علّمتنا الباركور". وينطلق عديّ مع رفاقِه الساعة الثالثة عصراً إلى الشاطئ يمارسون رياضتهم حتى الغروب.
5- شغف التصوير
التَّصوير أيضاً من الأعمال التي لا تفارق أهل غزة على شاطئ البحر، فتكاد لا تجد شخصاً لا يُصوّر كلّ شيء وهو على الشاطئ، فالغزاوي ينظر للصورة في "كاميرته" أو هاتفه النقّال نظرةً مختلفة؛ لأن الصورة التي يستطيع أن يلتقطها اليوم على الشاطئ قد يُحرَم منها في ربيع أو صيف العام القادم لاحتمال شن عدوانٍ إسرائيلي جديد، فهو حين يُقرّر أن يبدأ العدوان على القِطاع لا يُشاوِر.
لذلك تكاد لا تجد زائراً للبحر دون أن يلتقط الصور لنفسه وعائلته وللطبيعة سواءً تصويراً عادياً أو "سيلفي" لتبقى من أجمل الذكريات.
ويذهب محمود أبوحمدة، مصور الطبيعة "اللاند سكيب"، خصيصاً من أجل التقاط أروع الصور، يقول لـ"عربي بوست": "أكثر جولاتي البحرية تكون باتجاه شاطي بحر منطقة دير البلح التي لا تزدحم بالمُرتادين، وأحبّ ما يكون لقلبي أن أكون وحيداً، حيث أستشعر عظمة الله تعالى، وأستمتع بأروع اللحظات هناك، ويبقى الحوار خاصاً بيني وبين البحر".
ويضيف: "بين الصورة الناجحة وغير الناجحة ثوانٍ، وعلى شاطئ البحر أوثق أغلى لحظات العُمر التي قد لا تأتي إلا مرة".
6- كسب الرّزق
ربما من أكثر الأشياء التي ينتظرها بُسطاء غزّة وفقراؤها هو قدوم الصيف بحثاً عن رزقهم على شاطئ البحر حيث يكثر الزائرون، إذ بازديادهم يزداد رزقُهم.
وتتنوع طرق ذلك الكسب، فتجد الأطفال ينتشرون في كل ناحيةٍ يبيعون "العنبر"، وهو عبارة عن تفاحةٍ خضراء صغيرة مغموسةٍ بالحلوى الحمراء السائلة ومثبتة في عودٍ غليظ لسهولة إمساكها ومن ثم لعقها، والتي تجتذب الكثير من أطفال العائلات التي ترتاد الشاطئ.
وتنتشر أيضاً بسطات "الشوي" الثابتة، والمتنقلة على الأحصنة، حيث عادة ما يشوي الباعةُ الذّرةَ والبطاطا الحلوة على الشاطئ.
ندرة الجمال في قطاع غزّة يستفيد منها البدوِ الذين يملكونها في كسب الرزق على شاطئ البحر، فيمضون يومهم ذهاباً وإياباً ينقلون الأطفال الذين لم يرونها يوماً في حياتهم وينقلون الكبار أيضاً الذين لم يركبوا الجَمَلَ يوما، فيكسب الأول شيئاً من المال ويُسرّ الآخرون بركوب سفينة الصحراء على شاطئ البحر.
الأمر نفسُه يتكرّر مع الخيول، التي تركض على الشاطئ تارةً وتمشي هادئةً تارةً أخرى حين يكون راكبها طفلاً .
أكروبات
حركاتٌ والتواءاتٌ خياليةٌ أو يسمى "الرقص الأكروباتي"، يمارسها الطفل محمد الشيخ (12 عاماً) على شاطئ بحر غزة، تلك الحركات تُدهِش الناس لدرجة يقول بعضهم "إنه سحر"، في حين يطلق عليه الكثيرون لفظ "العنكبوت" و"الأفعى".
الشيخ يخرج من بيته في مدينة "تل الهوا" متشوقاً لرؤية بحر غزّة الذي ما إن يبتعد عنه حتى يشتاق إليه – كما يروي – وهناك يمارس أكثر الحركات ليونةً، يقول الشيخ لـ"عربي بوست": "أسعد أوقاتي هي التي يقرر لي فيها المدرب أن أنزل للتدرب على شاطئ البحر، إنني أحب البحر كثيراً ، بل أعشقه".
وتقول والدة الطفل: "شارك محمد في برنامج (Arabs Got Talent)، وحصل على المركز الأول ولاقى حينها اهتماماً إعلامياً كبيراً، لكنه اليوم في غزة لا يجد ذلك الاهتمام إلا بتصفيقات الناس المتجمهرة على شاطئ البحر وانبهارهم".
وتعلق: "موهبة محمد استثنائية وفريدة، ومن حقّه أن يلاقي اهتماماً وأن يتم تبني موهبته من أجل تطويرها وتنميتها والمشاركة في عروض عالمية".
7- بهلوان على الخيل
وبالرغم من أن نوادي الفروسية متوافّرة في غزة، إلا أنها تقتصر فقط على تدريب أساسيات ركوب الخيل والقفز على الحواجز، ما جعل شاطئ بحر غزّة ملجأ هواة ركوب الخيل.
الفارس عبدالله الغفري (22 عاماً) أول فارس فلسطيني يمارس رياضة حركات الجرأة والبهلوانية على الخيل (trick riding) واشترك معه فيما بعد الفارس سراج الشّوا (22 عاماً).
يقول سِراج لـ"عربي بوست": "تدربت على ركوب الخيل منذ كنت في الخامسة، وأمضيت فيها سنواتٍ عدّة، واليوم أنطلِق للبحرِ حيث الحريّة والحياة فأمارس الحركات البهلوانية مع صديقي عبدالله الذي تدرّب بنفسِه دون أن يلجأ للنوادي".
يوم الجمعة تحديداً يخرج الغفري والشوا لشاطئ بحر غزة ويؤدون حركاتٍ بهلوانيةٍ مميزّة وحركاتٍ جريئة على الخيل تجذب جمهور الشاطئ بسرعة فيلتفون حولهم مشجعين.
ويضيف الشوا: "لا أبالغ حين أقول إن الكثير من العائلات صارت تنتظرنا يوم الجمعة على البحر لتشاهد استعراضنا النادر، وفي أحيانٍ كثيرة تزور الوفود الأجنبية الشاطئ فتتفاجأ بروعة العرض مما فيه الأثر المعنوي الكبير على نفوسِنا".
8- مُتطوعو الإنقاذ
يفتقر شاطئ بحر غزّة لعددٍ كافٍ من المنقذين، فهم لا يعدّون شيئاً أمام العدد الكبير لمرتادي شاطئ البحر خاصة في الإجازة الصيفية والأيام الكثيرة شديدة الحرارة.
في حين أن الوضع الاقتصادي السيئ لقطاع غزّة يحول دون تخصيص عدد كافٍ في كل منطقة وكل وقت، ما يدفع الشباب الغزاوي المتمكن من الغوص والإنقاذ إلى أن يقوم بالتطوّع في هذا العمل.
ويتطوّع في ذلك محمود الرياشي نفسُه الذي يركب الأمواج، ويقول: "ما دمتُ أمتلك القدرة على الإنقاذ فإني أرى ذلك واجباً عليّ، خاصة وأن حالات الغرق كثيرة، وتحديداً في ساعات الليل".
ويضيف: "الحالات التي أنقذتها من الغرق تصل للمئات، في حين أنّ أصعبها تلك الحالات تلك التي تحدث في الليل، فيكون المنقذ كمن يبحث عن إبرة في كومة قشّ، ناهيك عن شعور القلق الذي يكابده أهل الغريق وتعلقهم بأمل فينا كمنقذين، وهذا بحدّ ذاته يزيد عبئنا ومسؤوليتنا".