استعرض "تشرينك توبكاي" رئيس وزراء بوتان معادلة بلاده لتحقيق التنمية والحفاظ على سعادة وصحة مواطنيه وتراثهم الثقافي والبيئة في بوتان في نفس الوقت، وذلك خلال حديثه في مؤتمر تيد TED في شباط/فبراير الماضي.
يبدأ "توبكاي" بالتعريف ببلاده التي يظن البعض أنها تشبه "شانغري-لا" ذلك الدير المختبئ وسط جبال الهملايا الذي وصفه الكاتب الإنجليزي الشهير جيمس هيلتون في كتابه "الأفق الممدود"، والذي يشبه إلى حدٍّ كبير تلك المدينة الفاضلة يوتوبيا بسكانها الذين يعيشون في سعادة وانعزال، بعيداً عن مآسي العالم من حولهم.
السعادة أهم ناتج قومي
يصحح توبكاي للحضور تلك المفاهيم والانطباعات المغلوطة عن بلاده التي مازال البعض يتعامل معها كدير يعيش به الرهبان السعداء، فيسرد الحقائق عن مملكة بوتان التي يقترب تعدادها من الـ700 ألف نسمة وتقع بين أكبر أمتين في العالم من حيث تعداد السكان؛ الصين والهند.
ويصف بلاده بأنها دولة نامية تفعل ما بوسعها للبقاء. فيحكي توبكاي كيف يرى بلده محظوظة بملوكها المميزين، ورهبانها المستنيرين الذين يعملون بجد وتفانٍ لتطوير بلادهم، مع حفظ الاتزان بين النمو الاقتصادي في كفة، والتنمية المجتمعية والاستدامة البيئية والحفاظ على التراث والثقافة في الكفة الأخرى، كل ذلك تحت غطاء من الإدارة الحكومية الرشيدة. تلك الطريقة الفريدة في إدارة المملكة يستخدمون في تقييمها ما يطلقون عليه "السعادة المحلية الإجمالية"Gross National happiness (GNH) (على غرار الناتج المحلي الإجمالي)، ويذكر توبكاي قولاً لملك بوتان الرابع أن السعادة المحلية الإجمالية أهم من الناتج القومي الإجمالي.
أصبحت السعادة المحلية الإجمالية منذ زمن حكم ملك بوتان الرابع في السبعينيات من القرن الماضي هي المحرك الرئيس لعملية التنمية والتطوير في بوتان، واضعين على قمة أولوياتهم سعادة وصحة شعب بوتان، وهي مهمة ليست سهلة كما تبدو حسب قول توبكاي، خاصة في ظل ضيق الموارد المالية والاقتصادية للمملكة التي يقل إنتاجها القومي الإجمالي عن 2 مليار دولار سنوياً، وهو رقم صغير جداً حتى بالمقارنة بالشركات الضخمة.
رعاية صحية وتعليم مجاني
يثبت توبكاي أن الأرقام لا تعني كل شيء، خاصة في حالة بوتان. فبالرغم من ضآلة حجم الاقتصاد البوتاني، لكن يقدم التعليم في المدارس مجاناً لجميع المواطنين، ويحصل المجتهدون على تعليم جامعي مجاني أيضاً، بالإضافة لحصول جميع المواطنين على رعاية صحية كاملة مجاناً، بداية من الاستشارات الطبية وحتى العلاج والأدوية كلها مجانية. يقول توبكاي أن بإمكانهم توفير ذلك للمواطنين لأنهم يستعملون مواردهم المحدودة بحكمة شديدة، ولأنهم متفانون في التزامهم بـ"السعادة المحلية الإجمالية".
ويستمر حديث توبكاي عن التنمية في بوتان، التي تضبطها القيم، فلا يسعون لتحقيق النمو الاقتصادي المرجو على حساب ثقافتهم وتراثهم الفريد، أو البيئة الطبيعية العذراء في بوتان، مما يحافظ على ازدهار ونمو حضارتهم بكل معالمها الثقافية، وبيئتهم الطبيعة الفريدة في نفس الوقت.
التقاعد في سن الـ 65
تشكل الغابات الممطرة 72% من المساحة الكلية لبوتان، ويلزم دستور بوتان الفريد الدولة بألّا تقل نسبة الغابات عن 60% بأي حال، وهو الدستور نفسه الذي يجبر ملك بوتان على التقاعد في سن الـ65.
وتعد بوتان من الدولة المحايدة كاربونياً، أي إن كمية ثاني أكسيد الكاربون التي تصدر عن نشاطتها البشرية كل عام، تساوي تقريباً كمية الكاربون التي تستطيع الغابات والمساحات الخضراء امتصاصها، والتي صارت قضية هامة في ظل الاهتمام العالمي بقضية تغيّر المناخ. لكن ما لم يتوقعه أحد، هو أن تكون بوتان دولة سالبة كاربونياً، أي إن ثاني أكسيد الكاربون الناتج عن نشاطتها البشرية كل عام أقل من الكمية التي تسطيع المساحات الخضراء امتتصاصها.
يحكي توبكاي كيف أن بلده ينتج 2.2 مليون طن فقط من ثاني أكسيد الكاربون، بينما تستطيع المساحات الخضراء امتصاص ثلاثة أضعاف هذه الكمية، مما يجعل من بوتان "حوضاً للكاربون" حسب تعبيره، يستطيع أن يمتص 4 ملايين طن من ثاني أكسيد الكاربون التي ينتجها جيرانه.
الطاقة النظيفة
ليس ذلك كل شيء، فبوتان تقوم أيضاً بتصدير طاقة نظيفة تم توليدها من خلال توربينات على الأنهار، وتوفر تلك الطاقة النظيفة لجيران بوتان 6 ملايين طن من ثاني أكسيد الكاربون، وتسعى بوتان لتصدير طاقة نظيفة توفر 17 مليون طن من ثاني أكسيد الكاربون بحلول عام 2020. ووفقا لتوبكاي فإن استغلال نصف موارد بوتان من الطاقة الكهرومائية يمكن أن يولد طاقة نظيفة توفر 50 طناً من ثاني أكسيد الكاربون، وهو ما يعادل أكثر مما تنتجه مدينة نيويورك في العام من ثاني أكسيد الكاربون.
أما على الصعيد المحلي، فتقوم بوتان بخطوات عديدة للحفاظ على وعدها الذي تقدمت به في قمة المناخ الخامسة عشر عام 2009 بالبقاء محايدة كاربونياً. فالدولة توفر الكهرباء النظيفة للمزارعين في المناطق النائية حتى لا يستخدموا الحطب في الطهي والتدفئة، كما تستثمر الدولة رغم إمكانيتها المتواضعة نسبياً في وسائل المواصلات الصديقة للبيئة، مثل السيارات الكهربائية، بالإضافة لذلك، فإن حكومة بوتان في طريقها لتطبيق السياسة الـ"لا ورقية" بالكامل، أي إن الدولة تحاول ألا تستخدم الأوراق وتستبدلها بالنسخ الإلكترونية، كما أطلقت بوتان برنامجاً وطنياً لزرع الأشجار حول بوتان يطلقون عليه "بوتان الخضراء".
وتقوم الدولة أيضاً ببناء ممرات زراعية خضراء لربط مناطق الغابات ببعضها البعض، تلك المناطق التي أصبحت كلها محمية سواء كمحميات طبيعية أو منتزهات وطنية.
بوتان للأبد!
تشكل الموارد المالية تحدياً شديد الصعوبة لبوتان، حيث تحتاج الحكومة لتوفير موارد كافية لتتمكن من مكافحة الصيد غير المشروع والتعدين والتلوث في المنتزهات الوطنية، ودعم المجتمعات الصغيرة التي تعيش في تلك الغابات. وبنظرة صغيرة للمستقبل، تجد حكومة بوتان أنها تحتاج لـ15 عاماً على الأقل لتؤمن المصادر المطلوبة للحفاظ على البيئة، لكن في ظل تسارع تغيّر المناخ وما يسبب من كوارث وخسائر، تعد الـ15 عاماً زمناً أكثر مما يمكن تحمله. لذلك أطلق ملك بوتان حملة وطنية تحت شعار "بوتان للأبد" Bhutan for life، وهي طريقة لتمويل النفقات المطلوبة لتأمين وصيانة البيئة في بوتان، حتى تسطيع الدولة تأمين ذلك ذاتياً بعد 15 عاماً. دمجت طريقة التمويل المبتكرة تلك بين أساليب الشركات العملاقة وبين أسلوب تمويل المشاريع الصغيرة، ويتوقع توبكاي أن تؤمن تلك الحملة المبلغ المطلوب بنهاية العام الجاري، والذي يعد إنجازاً حقيقياً، أرجع الفضل فيه للمشاركين والمتبرعين وعلى رأسهم الصندوق العالمي للطبيعة.
وفي نهاية محاضرته، يدعو توبكاي الحضور لمشاركته في حلمه، وهو مشروع يؤمن الحفاظ على البيئة الطبيعية وصيانتها للعالم بأجمعه، مشروع يساعد الدول ذات الظروف المشابهة التي لا تسطيع حماية البيئة الطبيعية، مشروع يسمح بتكرار التجربة البوتانية حتى نحافظ على عالمنا من أجل أبنائنا وأجيال المستقبل.