تشهد ظاهرة الوشم على الجلد أو ما يُعرف بمصطلح "التاتواج" انتشاراً واسعاً بين أوساط الشباب التونسي، ولا تستثني هذه العادة الإناث والذكور على حد السواء.
ولم يكتف شباب بالرسم بالحبر على أجسادهم فقط، بل اتجهوا للطريقة الأكثر إيلاماً من خلال حفر الجلد باستعمال الإبر أو بآلة Tattoo Machines.. فما الذي يدفع هؤلاء الشباب لتحمّل ساعات من جلسات الألم في سبيل رسم أو اسم أو حتى مجرد حرف؟
ألم جسدي لعلاج الألم النفسي
"سال الدم زال الهم" هو مصطلح شعبي تونسي برّر به أنيس، ابن الـ32 عاماً، إقدامه على وشم كامل ساعده بأشكال تراوحت بين الواقع والخرافة، قال إنها تجمع بين عروس البحر وعين المارد والسيف ورأس تنين.
وأضاف: "تعلمت هذه العادة خلال دخولي السجن وكانت البداية بوشم اسم والدتي مبروكة التي توفيت وأنا في سن صغيرة، حتى يبقى اسمها محفوراً في جسدي، ثم استهوتني هذه العادة وصرت مدمناً على نقش أشكال وألوان في جسدي".
وعن السبب، يقول أنيس إن راحة نفسية وسكينة تنتابه حينما يحفر وشماً في جسده بالرغم من وسائلها البدائية المتوافرة في السجن، حيث يستعمل إبرة تُلحم مع محرك آلة تسجيل صوتي صغيرة، ثم فركها بقطع من الصابون أو الحبر الصيني أو أعواد الكبريت للحصول على الألوان.
وبحسب الشاب أنيس فإن السجون تعد أكبر مراكز الإقبال على الوشم باعتبارها "تجمع معاناة أناس ظلمتهم الدنيا وعاشوا قصص خيانة وخيبات من أحبابهم فوجدوا، في هذه العملية متنفساً ووسيلة للتباهي بينهم".
وعن الرسومات، يفيد الشباب بأن "البعض يرسم اسم حبيبته التي خانته، وآخر يتفنن في رسم حيوانات مفترسة كرأس أفعى أو أسد من باب استعراض القوة، وذلك بأسعار تبدأ من 25 دولاراً للرسم الواحد، ويرتفع السعر كلما اتسعت مساحة الوشم في الجسم".
سرية تامة
أحمد واحد من الشباب الذين امتهنوا حرفة الوشم باعتماد أساليب عصرية، حيث يعتمد أساساً في الترويج لنشاطه وجلب زبائنه على مواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك وإنستغرام ويوتيوب)، حيث يعرض هناك نماذج لنشاطه ويتفاعل مع كل من يريد أن يرسم وشماً.
ويرفض أحمد الإعلان عن المكان الذي يقوم داخله برسم الوشم، مبرراً ذلك بمخاوف أمنية وبطابع السرية الذي يحرص على أن يوفره لزبائنه، بالإضافة إلى كون نشاطه غير مرخص.
وفي المقابل، لا يقبل هذا الشباب العمل إلا بموعد مسبق. ويتراوح ثمن الوشم الصغير ما بين 100 و150 دولار، كما يتجاوزه للضعف كلما كانت مساحة الوشم المطلوب على الجسم أكبر.
قد تصاب بالسرطان
وبالرغم من التحذيرات المتواصلة التي يطلقها أطباء الأمراض الجلدية في تونس من المخاطر الصحية الناجمة عن عملية الوشم، سواء انتقال عدوى الأمراض كالإيدز والتهاب الكبد الفيروسي عن طريق الدم أو بالإبر غير المعقمة، أو حتى بالأدوات المعتمدة في التلوين والتي يصل بعضها لاعتماد دهان السيارات وأعواد الكبريت والصابون، تبقى هذه العادة مستهوية لشريحة كبيرة من الشباب التونسي حتى صارت موضة سائدة لدى كل الطبقات وشكلاً من أشكال التباهي.
تعبير نفسي واجتماعي
وفي هذا الإطار يرى الباحث في علم الاجتماع طارق بلحاج محمد أن جذور الوشم تعود لنحو 3400 سنة قبل الميلاد، حيث استخدم من قبل الحضارات القديمة مثل الفراعنة والمايا وقبائل شمال ووسط أوروبا، ويختلف الوشم حسب الطقوس الحياتية والدينية، كالموت والحياة والزواج والتعويذات السحرية أو المرتبطة بأعراف قبلية أو نظام طقوسي، واستخدم الوشم قديماً كتعويذة ضد السحر والحسد ولغرض الزينة والتجميل، خاصة عند النساء.
وإذا كانت ظاهرة الوشم عند الذكور في تونس قد ارتبطت خلال فترة ما بشريحة معينة مثل المساجين، إلا أن الإقبال عليها اليوم أصبح لا يقتصر على هذه الشريحة، وأصبح الوشم عبارة عن تعبير نفسي واجتماعي وثقافي، بحسب ما يذهب إليه بلحاج.
ويواصل قائلاً: "الشباب بصفة عامة والمراهقون بالخصوص يبحثون عن التفرد والتميز والبروز وجلب الانتباه والحصول على القبول الاجتماعي من طرف الآخرين، فالاهتمام بالشكل الخارجي عندهم شكل من أشكال التعبير والتواصل، كما أن هذه الفئة – وبسبب عدم نضجها الفكري والنفسي والاجتماعي – عرضة أكثر من غيرها للتأثيرات الخارجية، خاصة من طرف وسائل الإعلام الأجنبية ومشاهير الفن والسينما في العالم.
ويخلص الباحث الاجتماعي إلى اعتبار الوشم شكلاً من أشكال التمرد على العادات والقيم الاجتماعية السائدة وبحثا عن التميز والاختلاف.
الوشم حرام شرعاً
ويرى الشيخ أحمد الغربي أن الدين الإسلامي حرّم الوشم؛ "لما فيه من مضار على صحة الإنسان التي أثبتها الطب الحديث وتغيير لخلق الله".
ويضيف أن ذلك هو ما أكدته نصوص دينية وأحاديث صحيحة للبخاري ومسلم، عن ابن مسعود، حيث قال الرسول (عليه الصلاة والسلام): "ﻟﻌﻦ اﻟﻠﻪ اﻟﻮاﺷﻤﺎﺕ ﻭاﻟﻤﺴﺘﻮﺷﻤﺎﺕ ﻭاﻟﻤﺘﻨﻤﺼﺎﺕ ﻭاﻟﻤﺘﻔﻠﺠﺎﺕ ﻟﻠﺤﺴﻦ، اﻟﻤﻐﻴﺮاﺕ ﺧﻠﻖ اﻟﻠﻪ".
ومن العادات السائدة في المجتمع التونسي في جنازة الموتى تقوم المغسلة أو المغسل بتغطية آثار الوشم على جسد المتوفى بالحناء أو الزعفران.
إزالة الوشم بالليزر.. كلفة عالية
وإذا كانت عملية الوشم تتم في أغلبها بكلفة منخفضة أو أحياناً بشكل مجاني فإن إزالتها تمثل عبئاً مادياً كبيراً على صاحبها، وهو ما أكده لنا مروان الذي تم رفضه في أكثر من عمل بسبب كثرة الوشوم التي تزين مناطق ظاهرة من جسده، وهو ما شكّل عائقاً له ولأرباب العمل في قبوله، فاضطر مكرهاً للذهاب لمستشفى الرابطة بتونس العاصمة لإزالتها بتقنية الليزر.
ويؤكد مروان أن سعر السنتيمتر الواحد الذي سيقع إزالته يتجاوز أحياناً 120 دولاراً، بينما يتضاعف السعر في مراكز التجميل الخاصة وتتطلب العملية جلسات طبية متكررة.