40 شخصاً تجمعهم جذوعُ النخل في دوامٍ يستمر منذ الصباح وحتى المساء، هم أشبهُ بصرحٍ علميِّ قائم بذاته دونما أية رعاية من منظّمات مدنية أو دعم حكومي. البعضُ يتفرغون لتعليم الأطفال والبعض يشيرون بخبراتهم لحلِّ مشاكل الزرع أو أيّ عراقيلَ تصادفُ الأيدي الشابة التي تداومُ على الاعتناء وجني "سائل الطاري".
كلُّ مايحتاجونه هو قطعةٌ من القماش للوصول إلى أعناق النخيل و"القدرة على التواصل مع نخلة الدوم"، بحسب ما قاله "علوي البند" كبير العائلة ذو ال 60 عاماً، الذي أكد أن الإحساس بمرض النخلة، وجوعها، ونموّها أو انزعاجها من مكانها أو التربة، ومعرفة الأوقات الصحيحة لتسلُّقها، وجني سائل الطاري منها، والطقوس الخاصة بذلك، والكثير من الدقائق الحياتية المتعلقة بنخلة الطاري، لن يرقى لفهمها أيُّ فرد من أفراد العائلة إلا بعد سنوات عديدة من التدرب والمحاولة، والتي تلزمه بأن يبدأَ رحلته المعرفية معها منذ نعومة أظفاره.
وسائل الطاري هو سائلٌ خام يتم استخراجه من أشجار الدوم ويستخدم كمادة أوليّة في صناعة الخلّ.
عادةٌ وتقليدٌ قديم
تبنت عائلة البند مهنةَ جني وبيع سائل الطاري كتقليد حافظ عليه أبناؤها منذ العام 1934، وأضاف علوي أن جميعَ أفراد العائلة لم يلتحقوا بأيّ وظائف حكومية أو خاصة، فقد ظلوا محافظين على المهنة ومعتمدين عليها، ولهم أيضاً سمعتُهم الكبيرة داخلَ اليمن وخارجها، إذ يأتي إلى مزرعتهم العشرات من الأجانب والمحليين لشراء الطاري، مشيراً إلى أنهم يلقِّنون أطفالهم كلَّ يوم وصيةَ الجد الأكبر "البند" بألا يلتهوا عن الاعتناء بنخيل الطاري مهما كان المقابلُ ضخماً أو مغرياً.
وعن طريقة استخراج السائل ذكرَ أنه يتم جنيُ الطاري من جذوعه 5 مرات في اليوم والليلة وفقَ طقوس معيَّنة، تبدأ من الساعة السادسة صباحاً وتسمى (الصبحية)، والجنية الثانية بعد شروق الشمس وتسمى (الشرقية)، والمرحلة الثالثة الساعة الثانية عشرة ظهراً وتسمى الظهرية، والرابعة عند الخامسة مساء وتسمى (تبياتة)، ثم الجمع الأخير ويسمى (القمرية) الساعة الثامنة والنصف بعد ظهور القمر للجزم بدخول الليل.
وتابع: "لا يمكن شربُ سائل الطاري من جذع نخلة الطاري مباشرةً لأنها بعد ذلك لن تنتج مرة أخرى، لكننا نكتفي بتعليق أوعية زجاجية تنسدل تحت الجذوع لتجمعَ قطرات الطاري، فللخبرة دورٌ كبير في استخراج سائل الطاري وتقدير أماكن خروجه فالخطوات التقليدية للجمع لا تكفي وحدها".
الخرافات
المعتقدات المبهمةُ أيضاً لها حضورٌ في عملية إنتاج سائل الطاري، بحسب شبّان عائلة البند الذين يؤمنون بها إيماناً قطعياً نظراً لأنها مصدرُ دخلهم الوحيد.
يوضح علوي هذا الأمر قائلاً "لا نؤذي نخلة الطاري فمعاملتها ككائن ذي أحاسيس له علاقة بما حوله جزءٌ من تعاطيها واستجابتها لنا، فمثلاً يمنع عن المرأة الحامل أو الحائض النظر نحو شجرة الطاري أثناء فترة إنتاجها للسائل لكي لا تتوقف الشجرة عن الإنتاج".
وعلى الرغم من أن عائلة البند تقوم بخطوات استخراج سائل الطاري أمام مرأى الناس بكل سهولة، إلا أنه لا أحد غيرهم استطاع استخراجَ الطاري من النخل، ومن جانبه أكد الطفلُ محمد البند ذو 12 عاماً أنه يوزع وقته بين الذهاب إلى المدرسة وبين العمل، لكنه أكد أنه سيكمل دراسته حتى المرحلة الثانوية فقط، وبعدها سيتفرَّغ كلياً للعمل في إنتاج الطاري، فالوظائف الحكومية غير متوفرة، معتبراً عمله هذا وظيفةً مرموقة ستدرُّ عليه مالاً وفيراً وهي مستقبله كبقية أفراد عائلته.
وأوضح أحمد عبدالله العلوي أن أشجار النخيلَ كانت مزروعة في حي الشعب في مدينة عدن منذ القدم لكنها لم تكن تلقى الاهتمام والرعاية المطلوبة، "بعد أن عاد جدُّنا البند محمد من زيارة علاجية من مصر ومعه الفكرة الكاملة عن طرق الاعتناء بنخيل الدوم واستخراج سائل الطاري منها قام، بإفناء ماتبقّى من عمره في استخراج الطاري وبيعه حتى أصبح مصدرَ الرزق الرئيسي ومن ثم الوحيد لعائلة البند بأكملها".
الطاري والنبيذ والخل
وشرح زين البند سببَ تسمية الطاري بهذا الاسم موضحاً أن الاسم مرادفٌ لكلمة "الطازج" أي أنه يتم شربه مباشرةً بعد خروجه من الجذوع لأنه إذا ما تم حفظه لأكثر من يوم وليلة، فإنه يتحوّل مباشرةً وبشكلٍ طبيعي إلى نوع من أنواع الخمر، يعرف بالنبيذ.
وأضاف كما أن وصيةَ الجد محمد البند كانت تمنع منعاً باتاً أن يتم إبقاء سائل الطاري إلى اليوم الذي يليه وإن تبقّت من هذا السائل كمية لم يتم بيعها فإنه يجب تخزينها أربعين يوماً ليتحول تلقائياً إلى خل طبيعي.
نساء عاملات
ولم تكتفِ نساءُ عائلة البند بالقيام بأعمال المنزل فقط، بل مارسن هذه المهنة بالعمل في حقل الأدواش في حي الشعب بمدينة عدن، وهي مساحةٌ أرضية كبيرة مليئة بنخيل الطاري التي يصل عمرها إلى أكثر من ثمانين عاماً.
فبحسب مريم، فإنها تقوم بأعمال متعددة كالعناية بشجرة الطاري أو سقيها أو أخذ الأواني الزجاجية المعلقة على قمة جذع كلِّ نخلة ووضعها في أوعية يأخذها الرجال الذين يتكفلون بمهمة بيع سائل الطاري، كما يقمنَ بالمساعدة في صناعة الخل.
استثمارات
زيد ذو 45 عاماً، حكى لـ"عربي بوست" عن أوقاته الجميلة التي قضاها مع الطاري وكيف أنه منذ الخامسة من عمره يجلس في الأدواش متابعاً والده وهو يقوم باستخراج الطاري والاهتمام بالنخيل بمعية جده أيضاً، قائلاً: "لم ألتحق بالمدرسة ولكن تعليمي ودراستي هنا بين النخيل أكسبني أكثرَ مما هو معروف بشهادة الدبلوم العام والتي لاتمنحك سوى رتبةٍ وظيفية واحدة، أما هنا فأتمتع بالكثير من المميزات، فضلاً عن دخلي الكبير من وراء بيع سائل الطاري". وأكد زيد أنه يفتخر بأنه أحدُ ورثة مهنة استخراج الطاري.
على الجانب الآخر فقد أبدى عبدالقادر البند تخوُّفَه من اندثار هذه المهنة خصوصاً بعد أن قام بعض ذوي النفوذ بخداع الحكومة بصفتهم مستثمرين وأخذوا من عائلتنا بقوّة السلاح ما يقارب 5 كيلومترات من أراضي الأدواش بعد أن اقتلعوا أشجارَ الطاري وأقاموا المنازلَ في تلك الأراضي، ثم غادروا المكان بعد أن استثمروا فيها ببيعها لأناس آخرين لا نزال في صراع معهم وما زال البسطُ على أراضي الأدواش قائماً بسبب اختفاء السلطات في مدينة عدن منذ أكثر من ستة أشهر.